full screen background image

روحانية مريم

208

“ها أنذا أمَة الرب، فليكن لي كقولك”                   (لو 38:1)

     بهذه الكلمات، أعلنت مريم نفسها خادمة للرب، مجنّدة إرادتها وعقلها وقلبها وحواسها، وكل ذاتها لله. ” أنا أمَة الرب”، تسليم مطلق، كامل أبدي، دون قيد أو شرط للمشيئة الإلهية.. إن العذراء بهذه الكلمات وكأنها تقول: أنا أمَة، وخادمة، وأداة، انني أهب نفسي لأنني لم أعد ملكًا لذاتي، بل لذاك الذي يسكن في كياني وأسكن في كيانه. ان العذراء بموجب مخطط الله هي ذاك الإنسان الذي يُقدم لنا المسيح، ويقدّمنا إليه ويعرّفنا به، وهي التي تجتذبه الى نفوسنا لنتّحد به. مريم هي التي أعطت يسوع للعالم، فعَمَلت مِن الله إنسانًا وحوّلت البشر أبناءً لله.

مريم: تتأمل، تعمل، تصلي:

          لقد صَمَتَ الإنجيل عن ذكر فضائل مريم، بل عن حياتها أيضًا، ولم يَذكر إلا ما كان ضروريًا للتعريف بابنها. لقد اتخذت العذراء في حياتها مظهر الإنسان الصامت، المضمحل احتراقًا وحبًا لإرادة الله. يقول لنا الإنجيل: ” وكانت مريم تحفظ كل هذا في قلبها..” (لو19:2).

تحفظ كل شيء، حتى لو لم تعرف أو تكشف أي شيء، انها صورة كاملة لنسيان الذات، يكفيها أن تتحد بقلبها ونفسها في أسرار ابنها. تطيع دون أن تسأل، تعمل بصمت حتى قبل أن تدرك. تحافظ على المكان الأخير دون أن تنظر الى شيء آخر سوى يسوع. ورغم علمها ان اشياء عظيمة أُنجزت فيها، فانها لم تتباه أو تعجب في نفسها، بل واظبت على النظر الى ذاك الذي عَطفَ على عدمها.

تسليم مريم الكامل لله:

          منذ أن قالت مريم (نعم) لله، اصبحت حياتها سلسلة تسليم كامل لمشيئة الآب. انها تطيع طاعة عمياء منطلقة من ايمان ومحبة ثابتة، والمحبة لا تحتاج أن تعرف أو تكشف المستقبل. وهكذا علينا ان نقتفي أثر مريم، فنقف في حالة انتظار لمعرفة ما يريده الله منا، فلنصير ملكًا له، ليتصرف بنا كما يشاء. الطاعة دخول الى حياة من نطيعه وانصهار كلّي في ذاته. انها حذف تام لرغباتنا لكي تحل مكانها رغبات الله التي لا ندركها. انها إتاحة المجال لله لكي يفكر بنا، ويعمل من خلالنا.

مريم مثال الخدمة:

          لم تكن حياة الخدمة عند مريم مجرد فترات متقطعة، بل كانت صبغة لازمتها طوال حياتها. انها أمة الرب قبل التجسد وبعده، اثناء حياة ابنها وبعد صعوده، في حياتها وبعد انتقالها الى السماء. كانت العذراء دومًا خادمة للرب، خصوصًا وان مَن حَمَلتهُ جاء ليَخدِم.. لا ليُخدَم. فلْنسعَ كي نَخدِم على مثال العذراء أمنا، فنعطي يسوع من خلالنا للعالم. وللخدمة مزايا، فهي تعني التلاشي لإظهار مجد الله، وهذا لا يحصل بدون تضحية وقهر للذات، بدون الفقر والصبر والتواضع والتفاني. الخدمة تتطلب أيضًا وعيًا على حاجات كل الناس. وفي هذا السبيل تتنوع أُطر الخدمة وتتعدد، فما أكثر حاجات الناس، وما أجمل المحبة حين تدفعنا الى لبس شخص المحبوب، فلنبتكر طرقًا لا متناهية للخدمة والبذل. فهلّا قلنا (نعم) لله، لكي تصبح طاعتنا وخدمتنا سببًا لتجسد يسوع من خلال حياتنا اليومية.

مريم شريكة في الفداء:

        ان قلبين وُجِدا مدفونين في قبر يسوع، وهما قلبه وقلب أمه معًا. لقد أتت العذراء الى ذبيحة الصليب بقسطها الحقيقي. واذا ذهبنا الى الجلجلة يوم كان المسيح يصالح البشرية مع أبيه نجد مريم أمه عند اقدامه لتقدمهُ فداءً للناس، فأرادت ما أراد ابنها الفادي، واشتركت مع الأب السماوي في النيّة والإرادة بتقديم ابنها لأجل خلاص البشر فساهمت في مجد ايلادنا ويومذاك لحياة القداسة. فهي أم جميع المؤمنين، وأم الكنيسة التي ولدها يسوع من جنبه الأقدس.

          فابنة مريم عليها أن تكون على مثال أمها : تقبل بفرح وسخاء دعوة الله لها، وتُقدم ذاتها مع المسيح حبًا وطوعًا، ذبيحة فداء لخلاص النفوس.

ابنة مريم

(نشرة العهد الفصلية – رهبانية بنات مريم، السنة الثالثة، 2001، العدد الأول، ص6)