الكاردينال لويس روفائيل ساكو
يقع يوم الاثنين القادم 25 كانون الثاني ولمدة ثلاثة ايام، الصومُ المعروفُ عندنا في العراق بـِ ” باعوثا نينوى” والذي يلتزم به غالبيَّةُ المسيحيين، وكأنه الصوم الكبير. صومٌ قطعيٌّ الى الظهر أو الى المساء، مع المشاركة اليوميّة في صلواتٍ خاصةٍ ورتبِ توبة واحتفالٍ بالقداس. كلمة “باعوثا” سرياني-كلدانية تعني صلاة الطلبة.
ثمة فرقٌ بين يونان النبي و يونان “السِفْر“ المتمرد
بحسب علماءِ الكتاب المقدس ان النبي يونان ” يونس” ذو النون( اي صاحب السمكة- الحوت ) معروفٌ في اليهودية والمسيحية والاسلام. عاش في مملكةِ إسرائيل الشماليّة في القرن الثامن قبل الميلاد في ايام الملك ياربعام الثاني(786- 746)، ولم يغادرها البتة. اما مؤلف سفر يونان، (احد أسفار الانبياء اللإثني عشر في العهد القديم)، وهو ليس النبي يونان، ولا علاقة تاريخية مباشرة معه، هو شخصٌ مجهول من اواخر القرن الخامس الى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد. والاحداث التي يرويها غير تاريخية. أشير على سبيل المثال الى نينوى التي دمرت سنة612 قبل الميلاد، وعدم وجود بحر بينها وبين اسرائيل! ويونان هو نينوى معكوساً.
كاتب السفر( القصة)، شخصٌ منفتح، يتمتع بكاريزما النبوة، ثائرٌ على المعتقدات التقليدية التي حصر فيها اليهود انفسهم، واعتقدوا ان الله هو لهم وحدهم، ولا يًعنيه الاخرون! من هذا المنطلق استخدم الكاتب اسم يونان والف هذه القصة- الدرامة لكي يعرض لمعاصريه ولنا تعليماً دينياً جديداً يؤمن به. محوره: ان الله ليس حِصراً لليهود، انما هو إلهٌ رحيمٌ، وأبٌ عطوفٌ يرعى جميعَ ابنائه وبناته الذين خلقهم، ويرغب في خلاصهم. نجد صدى لهذه الرعاية الابوية في انجيل يوحنا: ” فإن اللّه أحب العالم حتى إنه جاد بابنه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يوحنا 3: 16). والتوبة التي يعنيها السِفْرُ تحديداً هي: نبذ التطرف والطائفية عنداليهود ومن بينهم يونان المتزمت، والعنف والحرب عند اهل نينوى. يصف مار افرام في الميمر الاول للباعوثا يونان ونينوى بـ ” نموذج للتوبة”.
تُشير القصة – الدرامة الى ان الله أمر يونان بالسفر الى مدينة نينوى الفاسدة ليعظ فيها، ويحث أهاليها على التوبة، لكن يونان الطائفي يستاء من أمر الله، ويرفضه. والسبب هو ان نينوى مدينة ليست يهودية، وانها سبق ان قامت بسبي اليهود في زمن الملك الاشوري سنحاريب، لذلك هرب في سفينة الى ترشيش( مراكش اليوم)، اي الى اتجاهٍ معاكسٍ تماماً. وهاج البحر، ورمي يونان فيه، وابتلعه حوتٌ، ظلَّ في جوفه ثلاثة ايام. استولى على يونان الخوف والهلع، فاخذ يُصلي بقلبٍ منكسرٍ الى الله لكي ينقذهز. أخيراً قذفَهُ الحوت خارج مدينة نينوى. وراح يونان( بطل القصة) يعظ فيها صوماً عاماً صارماً وتوبة، فعفا الله عن سكانها. هنا ايضا نرى الكاتب يعودُ يركزُ من جديد على شديدأسف يونان، وحزنه أمام توبة أهل نينوى وخلاصهم! فقالَ الرَّبّ: ” لقَد أَشفَقتَ أَنتَ على الخِروَعَةِ الَّتي لم تَتعَبْ فيها ولِم تُرَبِّها، والَّتي نَبَتَت بنتَ لَيلَة، ثُمَّ هَلَكَت بِنت لَيلَة، أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ آثنَتَي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ..؟” ( يونان 4/10-11).
ممارسة الباعوثا في الكنيسة
لا علاقة لممارسة باعوثا الكنيسة بأهل نينوى، انما يعود تنظيمُها الى تفشي وباء الطاعون (ܡܘܬܢܐ) في بلاد ما بين النهرين أيام الجاثليق حزقيال(570-581)، حيث مات الالوف من الناس، فدعا الجاثليق الناس الى الصيام والصلاة والتوبة لمدة ثلاثة أيام من اجل زوال الوباء. هذا ما حدث ( طالع كتابنا سبر البطاركة ص 51). استلهم الجاثليق حزقيال ومعاونوه عناصر سفر ” قصة يونان” لمساعدة الناس على الصلاة والتوبة، فنظَّم مواعظ شعريّة ومداريش شجيّة، اقتبسها من ميامر مار افرام ونرساي وآخرين، وصلوات وطلبات، وسمَّاها “باعوثا نينوى” تيَمُّناً بالصوم الذي ورد في سِفر يونان.
جائحة كورونا تتطلب الباعوثا.
ان وباء كورونا الفتاك الذي تفشى في كل دول العالم، ومسَّ حياة الملايين من الناس يُشبه وباء الطاعون في زمن الجاثليق حزقيال! فقد بلغ عددُ الوفيات في العالم حتى اليوم قرابة المليونين، والمصابين نحو خمسة وتسعين مليونا. انه كارثة عالمية بكل المقاييس، بما حملته من نتائج سلبية على حياة الناس صحيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً ( التعليم والدراسة)، واقتصاديّاً ودينيّاً( علقت نشاطات الكنائس والجوامع). وكما فعل المسيحيون ايام الجاثليق حزقيال و زال عنهم الوباء، لنقتدي بهم نحن أيضاً ، ونحول هذه التجربة الاليمة( جائحة كورونا) الى فرصة نعمة وخير، من خلال وقفة روحية واجتماعية تضامنية جادة: تعالوا نصوم معا ونتوب عن خطايانا، ونصلِي من اجل الخلاص من وباءكورونا، ونتأمل في معنى وجودنا، ونتحمل مسؤولياتنا تجاه اخوتنا ومجتماعاتنا، ونتضامن مع المرضى المصابين بكورونا وبأمراض أخرى، وبالناس الذين فقدوا وظائفهم ورزقهم، و لنمد لهم يد العون. .
لنصل أيضاً من اجل عودة السلام والامان والاستقرار الى بلدنا والمنطقة بعد كل الحروب والصراعات التي انهكتها. لنصلِ كذلك من اجل نجاح زيارة البابا فرنسيس. لنستمع الى كلماته كما سمع اهالي نينوى الى كلمات يونان، لكي تكون لنا حياة أفضل.