full screen background image

الصلاة هي سمة الراهب

817

الأخت فيليب قرماm

فالسِّمة الاولى للراهبة هي الصلاة، والصلاة فقط. وباٌنقطاعها عن الصلاة تعود وتسقط في العالم الذي خرجت منه وتصبح ” غائبة “. وقد قال القديس يوحنا الذهبي الفم: ” إنه من الأفضل أن تتوقف الشمس في مسيرها، ولا يتوقف الراهب عن صلاته “.

  • الصلاة عطية من الله كالحياة. إِنَّها علاقة وجواب وموقف وحالة، بل هي مناخ إلهي يغمرنا كالنعمة ويُحييناً كالنسمة. الصلاة والتكرُّس توأمان. والدعوة الرهبانية هي ” بنت الصلاة “. والمكرَّسة إنسانة مدعوة تسمع صوت الله في أعماقها، وتتجاوب مع هذا النداء، وقد ربطت مصيرها بالله واٌختبرت حبّه.
    قال يسوع للسامرية: ” لو كنتِ تعرفين عطية الله “! (يوحنا 4/10) عطية الله هذه تظهر على حافة البئر حيث تأتي النفس المدعوّة لتلتمس ماءها. هناك يأتي المسيح إلى لقائها لأنه عطشان الى النفوس، الى الانسان. والصلاة ما هي إلاّ التقاء ظمأ الله بظمئنا، أو جواب على محبة الله لنا. قلب الانسان المتخشِّع هو موضع اللقاء والعهد مع الله. والتواضع هو أساس الصلاة. ومع صلاة أمنا مريم ” هاءنذا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك ” (لو 1/ 38)، نقدّم ذواتنا تقدمة سخية لله بالايمان والرجاء والمحبة، فنصبح بجوهر كياننا صلاةً وشغفاً بالرب يسوع، ولا نعود نجد ذواتنا إلاّ في قلب هذه العلاقة الانسانية والثالوثية.
  • الصلاة هي الطريق والغاية للراهبة: إِنَّ اكتساب الكمال في حياة الراهبة يتمُّبالصلاة وفي الصلاة. الصلاة رفيق درب الراهبة. فالأعميان لمّا شُفيِا كانا يصرخان: ” يا يسوع بن داود اٌرحمنا”. في الصلاة تستعيد الراهبة صحَّتها. فالراهبة تحديداً انسانة صلاة. والصلاة هي التي تصنع الراهبة لا اللباس. الصلاة هي الطريق الوحيد للحياة في الله. ” نحن نكون بقدر ما نصلّي “. والراهبة جزء من الكون الالهي وهي تصلي، كما تصلي المخلوقات الكونية.
  • هناك أسئلة كثيرة تستوقفنا في هذه الأيام: هل نحن نولي الصلاة المكانة التي تستحقٌّها؟ وهل نؤمن بفاعلية الصلاة وضرورتها، قبل أَن تكون فرضاً علينا في حياتنا الرهبانية؟ هل لا تزال كلُّ منا ” انسانة صلاة ” قبل كل شيء، أي قبل أن تكون معلّمة أو إدارية؟ وكيف تكون راهبة من لا تصلي، ومن لا تكون حياتها صلاة دائمة؟
  • الرهبانيات هي قلب الكنيسة المصلّي. إِذا انعدمت الصلاة فيها، يبرد جسم الكنيسة كلّه. لذا يجب التشديد على أَن تكون الصلاة في رهبانيتنا عملنا الأول، لنيل العون والنعم والمغفرة من الله للعالم كلّه. العالم مسؤوليتنا أمام الله، وعلينا أن نحمله إليه تعالى بصلواتنا.
  • لا نخف على رهبانية فيها أناس مصلّون، أو مرَّ فيها أناس اتَّسمت حياتهم بالصلاة. بل لِنَخف على رهبانية تكون بين اعضائها وبين الحياة الروحية أزمة وطلاق مستحكم.
  • يمكننا أن نؤكّد أنَّ حياتنا هي مرآة صلاتنا، ومقياس صلاتنا هو محبتنا. فصلاة الشكر والتسبيح والتشفُّع والاستغفار وسواها، تكون بمثابة الرافعة التي تحمل العالم بأسره الى الاب، على يد الابن وبقوة الروح القدس، وبشفاعة أمنا مريم. بهذه الصلاة الثالوثية والقربانية والمريمية نُصبِح كلُّنا ” كهنة ” مع المسيح، وقرابين حية، وتصبـح أعمالنا كلها واٌنشغالاتنا أفخارستيا في مدرسة مريم. فكلّ منا تسعى قائلة مع المزمّر: ” انا لستُ إلا صلاة ” (مز 109/4).

قصة
كان في إحدى المدن شاب غني أراد أن يتبع السيد المسيح، فترك كل شيء وباع أمواله ووزّعها على الفقراء، وذهب إلى أحد الأديرة القديمة القريبة من المدينة مكرّساً حياته للصلاة والتأمل. وهناك التقى راهباً حكيماً طاعناً في السن له خبرة طويلة في الصلاة، فسأله: كيف يستغرق الانسان في الصلاة مــع الله؟ أجابه الراهب: كان هناك تمثال من الملح يتساءل عن نفسه ويقول: من أنا؟ كيف أعيش؟ ما الفائدة مني؟ وصل التمثال يوماً إلى البحر، فسأل البحر: من أنت؟ فأجاب البحر: أنا البحر. وأنت من تكون؟ فقال تمثال الملح: أنا لا أعرف. أنا مجرد تمثال من الملح. فقال البحر: أتريد أن تعرف نفسك أكثر؟ فقال تمثال الملح: نعم بالتأكيد. فقال البحر: تعالَ واٌدخل فيَّ. فبدأ تمثال الملح بالدخول في البحر وأخذ يذوب رويداً رويداً إلى أن ذاب تماماً، وصار ماء البحر مالحاً. عندها قال التمثال: الآن عرفت من أنا وما الفائدة مني.
ثم نظر الراهب الحكيم إلى الشاب الغني وقال له: ” هكذا تصلي…”.
ونحن أيضاً، أَمَا يجب أن تكون حياتنا كلها استغراقاً في الله، فنجعل صلاتنا حياة، وحياتنا صلاة؟
الصلاة مواعيد ومحطات ولقاء دائم
إنَّ صلواتنا وممارساتنا الدينية ورياضاتنا الروحية، ما هي إلاّ محطات للعبادة الحقيقية، وغذاء لليقظة الروحية، وتمرّس بالصلاة الدائمة، بل هي ايقاعات صلاة مُعَدّة لتغذية روح الصلاة المتواصلة، لأن الراهبة التي لا تصلّي إلاّ عندما تصلّي، فهي لا تصلّي أبداً. إنَّالصلاة للنفس المكرسة هي أوكسجين الحياة الرهبانية.
نحن اليوم أكثر من أي وقت بحاجة الى خبرة كهذه في قلب المدينة. نحن بحاجة الى واحات من الصمت والهدوء في وسط عالم يثرثر، والى جمال السهر في الليالي في عالم يسهر وضميره نائم، والى بهاء السجود للقربان حيث العالم ساجد لأصنام جديدة.
” إِنَّ التأمل في وجه يسوع والانشغاف به يدعونا إلى التأمل في وجوه إخوتنا البشر والتفاني في خدمتهم. وبقدر ما نسجد ونركع أمام الله بقدر ذلك نستطيع أن نبقى واقفين مع إخوتنا وسائرين أمامهم ” (رسالة يوم الدعوات 2002، لقداسة البابا يوحنا بولس الثاني)، فتصبح صلاتنا محبة ومحبتنا صلاة. هذه الصلاة تبدأ دائماً بالحضور المشِعّ في أروقة الدير، وفي قلب جماعة الاخوات، وفي كلّمكان.

الصلاة مكوِّنة للجماعة:
تقسم الصلاة الى نوعين: عقلية ولفظية. فالصلاة العقلية هي عمل فردي يرتفع خلالها الراهب عن ذاته ليلتقي بذات الله. أمّا الصلاة اللفظية فهي عمل مجموع الرهبان المنصهرين كما في بوتقة، يستسلمون لمفعول الصلاة التي تعجنهم وتحوّلهم الى جماعة. فالصلاة هي في آن واحد، عمل الجماعة ومكوِّنة لها. يُدرك الرهبان أَنهم جماعة مصلّية بالدرجة الاولى، وتنبثق شراكتهم الحياتية والروحية من الصلاة. فالأوقات التي تجمعهم تطغى على الاوقات التي تفرّقهم. لذلك لا يمكن أَن يُدرك الراهب ذاته إلاّ كجزء من جسم الجماعة المصلّية. كلّ صلاة مختَبَرة ومُعاشة جماعياً تجعل الجماعة بأكملها لله، وتبني حياة الجماعة في وحدة مؤسسة على شركة الحب.
ما نصلّيه يجمعنا ويوحّدنا، ويجعل منا جسماً واحداً غير منقسم. إنَّ الله الباني العلاقة فيما بيننا، هو وحده القادر أن يجمعنا في شركة من الحب والحياة. وخارج هكذا عيش جماعي للصلاة، تبقى الجماعة خارج الحياة.

الصلاة وعمل المحبة:
بالصلاة تفتح الراهبة باب الحب في قلبها لجميع الناس. وكل صلاة هي بطبيعتها مرتبطة بعمل المحبة، الذي يجعل من علاقتنا بالله علاقة حقيقية بالانسان، قريب الله وقريبنا. لذا كلّ عمل معمول بمحبة هو من فيض الصلاة التي تفعل فعل الله في الكون. من هنا لا يمكن الفصل بين الصلاة والعمل، طالما أنهما يعبّران بطريقة موحّدة عن علاقة الحب المتجسد.
وهكذا نجد أنَّ دعوتنا لعيش المحبة تجاه القريب، هي تحقيق لعلاقتنا الفعلية بالله من خلال الصلاة. الصعوبة في التعامل مع الآخرين تنشأ دائماً من قلة الصلاة وقلة المحبة. ويكمن الخطر في أَن تظلَّ صلاتنا في وادٍ، وحياتنا في وادٍ آخر.

الاشكال المختلفة للصلاة الرهبانية
أ . صلاة الخورس (الجماعة): منذ فجر حياة الشركة الرهبانية، عكف الرهبان على الصلاة الجماعية باٌسم الكنيسـة ومن أجل الكنيسة. وكان رهبان البرية يجتمعون اسبوعياً فيؤدّون الصلوات الجماعية. ودرجت العادة في الغرب أن يجتمع الرهبان خمس مرات في اليوم للصلاة الجماعية، وَسَمَّوا ذلك Opus Dei ، أي “العمل لله ” باعتباره عملاً إلهياً يقومون به.

ب. التأمل: ينال التأمل في كلمة الله مكانة فريدة في حياة المكرَّسين. فمن الكتاب المقدس يستقون غذاءهم اليومي، وفيه، ولا سيّما في الأناجيل، يجدون صورة يسوع المسيح الحيّة، فعندما يتأملونها يزدادون انضماماً اليه واتّباعاً له. ولا غرابة إن اٌزدهر التأمل في كلمة الله داخل الادي