full screen background image

قصة الخلق بين الحقيقة والواقع … سؤال… هل الخلق حقيقة أم لا؟

458

تأملات في زمن الكورونا

اختيار الأخت روز ماري

جواب على سؤال احد المؤمنين.

مرة بعد أخرى تقف الكثير من النصوص والقصص الكتابية وخاصة من العهد القديم عقبة في طريق المـؤمن لدرجة أنّه يذهب إلى نكران العهد القديم، حيث لا فائدة تُرجى منه بعد أن غذّى ونمّى العهد الجديد إيمانه، محققاً شعوراً بالرضى عن الذات والفخر بالمسيح غاية العهد مانح الخلاص. حيث أخذ ينظر إلى قصص العهد القديم على أنها عبارة عن تعبير اجتماعي أو فلكلور شعبي كمحاولة فكرية نفسية اجتماعية لتأطير تاريخ الخلاص بالقصص الأسطورية التي تعكس محاولة الكاتب المحدود لوضع بدايات لمشروع الله علمياً وتاريخياً. من جهة أخرى ظهرت مجاميع ليست بالقليلة توغلت في أُطر هذه القصص مستسلمة كلياً للنصوص كونها مقدسة ولا يمكن مناقشتها أو نقدها، فالنص بالنسبة لهذه الشخوص هو مقدس قدسية الله. مع هاتين المجموعتين لا ننكر وجود فئة ثالثة تؤمن بالكتاب المقدس بمجمله كونه كلمة الله التي يحملها الفكر البشري وقد عبر عنها عبر زمن يمتد ألف سنة عبر لغته البشرية وضمن بيئته. أي أن الكاتب يقدم نصه كحقيقة تعكس الإيمان مستخدماً كل أنواع الأدب التي تعبر عمّا يؤمن به وهذا مايسميه علماء اللغة، الجنس الأدبي للنص، فنجد الرواية والقصة القصيرة والمثال والأشعار والنثر وما إلى ذلك من فنون أدبية تتخللها الرموز و العناصر الأسطورية محاولة للتعبير عن الأحداث كواقع إيماني قد عاشه الكاتب والجماعة في الماضي وإلى اليوم وبإتجاه المستقبل. بذلك يتجاوز الكاتب الواقع التاريخي للحدث محولاً المعلومة التاريخية إلى تاريخ مقدس، معتمداً على الله كأساس وغاية كل الوجود وخاصة الوجود البشري. أي أنّ الله والإنسان مصدر وغاية هذه النصوص. وبذلك نستطيع أن نقول أنّ المؤمن بهذه العقلية استطاع من خلال التأمل أن يخرج بنتائج تعمّق إيمانه كونها قادرة أن تنقله من زمن إلى آخر ومن عقلية إلى أخرى مع الأخذ بعين الاعتبار كل عناصر التطور البشري والتي تسهل عملية الوقوف عند معنى النص دون تجاوزه رغم كل التقدم الذي شهده الإنسان خلال وجوده.

هذه المقدمة الصغيرة هي محاولة لشرح بعض هذه النصوص وخاصة النصوص التي نعتقد أنها تُناقِض العلوم المعاصرة. سوف أقف اليوم على أحد أهم هذه الأسئلة وهو،

هل قصة الخلق الكتابية حقيقة أم خيال؟

ينتظر السائل أن نجيب بنعم أو لا، لكي يبدأ سلسة من الأسئلة التي ربما لا تنتهي إلا بالسؤال نفسه الذي انطلقنا منه.

لذلك سأجيب: نعم قصة الخلق حقيقة، ولكن!

للإجابة على هكذا سؤال يجب الوقوف عند عدد من النقاط .

١ـ نوع السؤال:

لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ السؤال الصحيح يتيح إجابات حقيقية صحية، فما الذي يتوخاه السائل من سؤاله هذا، بل ما الذي يدفع به إلى هذا النوع من الأسئلة؟ لا نستطيع أن ننكر بأنّ المعرفة العلمية، وعملية المقارنة بين ما ندرسه في كتب العلوم وما عرفناه من الكنيسة هي أساس هذا السؤال، وهكذا كلما تعرفنا على معطيات جديدة أتاحت لنا أسئلة جديدة، فالإنسان كائن مدعو للمعرفة. هذه المقارنات بل المقاربات الفكرية أنتجت نوعاً من التأمل المستمر بحثاً عن الحقيقة. لذلك يصعب الإجابة المباشرة عليها من غير توضيح. فلو أجبنا بالإيجاب وقلنا نعم، هذه القصص حقيقة. لقاطعنا السائل مباشرة بأن العلم يقول غير ذلك ويسهب بالتطرق إلى النظريات العلمية مثل، نظرية الإنفجار الكبير والتطور وغيرها من النطريات التي تبحث في أصل الكون والوجود، غير آبهاً البتة بمفهوم العدم أو المبدأ الأساسي للخلق وغير منتبهاً إلى الخلط الكبير والغير المتجانس ما بين السؤال والجواب. فهو يسأل سؤال ديني ويجيب جواب علمي. لذلك وجب علينا أولاً فصل هذا الاختلاط ، لأن كلمة الخلق غير موجودة في القاموس العلمي كونها مرتبطة بالعدم كمفهوم ديني. كما لا يناقش العلم مسألة أساس الوجود، بذات الطريقة ولا يتوقف الكاتب الملهم عند الزمن كنقطة شروع فهو يتكلم عن أزلية الله الذي خلق الكون في الزمن، فالزمن مرتبط بفعل الخلق. ولهذا علينا أن نتوقف لكي نعود إلى السؤال من جديد ولكن لنتفق على بعض التعابير اللغوية (المصطلحات) الواردة في السؤال ومصدرها، وهنا نصل إلى الحقيقة الثانية.

٢ـ علم أم إيمان؟

بالتأكيد لا تناقض بل تعاضد بين الاثنين، لا مناص عن الاثنين ولكن لكل من التيارين لغته الخاصة للتعبير عن الحقيقة التي يقدمها مؤيدوا ذاك الخط أو التيار. الكنسية كحافظة وناقلة للإيمان تؤمن أنّ الإيمان والعلم هما الجناحين الذين يحملان الحقيقة ( رسالة في العقل والإيمان للبابا يوحنا بولص الثاني ـ روما ١٩٩٨)

لا شك أن هنالك لغات عديدة للتعبير عن حقيقة معينة ربما تتباين لغة التعبير لكن هذا لا يعني أنّ الحقيقة تغيرت. نفهم أن المؤمن يبحث عن جواب مقنع لا يناقض العلم، هو يريد أن يبني إيمانه على العقل وهذا منطقي وطبيعي كونه يريد الاستناد إلى قاعدة مادية ملموسة. لكن مشكلة العلم تكمن في إنكار ما لا يمكن إثباته، ولكن هل هذا كل شيء؟ هل يمكن التنصل عن بعض الحقائق مثلاً كالفداء والخلاص والحب والاهتمام والمعنى التي ربما ليس لها الكثافة المادية نفسها التي للحقائق العلمية؟ هذه الحقائق لا يمكن إهمالها لما لها من نتائج في صياغة الكون إنها لا تقل شأناً عن المعطيات العلمية أو المادية. لذلك يمكن إعتبار العقل والإيمان عنصرين يدعم أحدهما الآخر، فكلما اعتمدنا الحقائق العلمية أصبح التعبير عن الإيمان أكثر سهولة. و هكذا يدفعنا الإيمان للبحث العلمي من أجل ترسيخ الحقيقة، فنكون أكثر ثقافة وعلم. هكذا يتوازى العنصرين العلمي والإيماني في التعبير عن ذات الحقائق ولكن بطريقة مختلفة اختلاف الممكنات التي تحقق كل عنصر من العنصرين، وعندما نقول موازي هذا يعني غير متقاطع، فلا يمكن للعلم أن يلغي الإيمان كما لا يستطيع الإيمان أن يُكذِّب ويشوّه الحقيقة العلمية. هذا يضعنا أمام سؤال مركب ذو أبعاد كثيرة لا يمكن إختزالها بالنفي أو الإيجاب. ثم إن هنالك بعداً كتابياً آخر يتجاهله السائل بل هو غير مُدرك له ألا وهو أنّ التيارين الأولين الذين ذكرناهما في المقدمة ( تيار رافض للعهد القديم و التيار الكلاسيكي) غير مدركين لوجود قصتين للخلق في بداية سفر التكوين هذا إن تجاهلنا حالياً مصدر وسبب هذين النصين أو القصتين.

قصة الأيام السبعة وهي الأولى من حيث الموقع ( تك ١: ١ـ ٢:٤أ)، وهي الثانية من ناحية زمن التدوين وتعود للتقليد الكهنوتي اي منذ بداية القرن السادس قبل الميلاد. أما القصة الثانية ( تك ٢: ٤ب ـ ٢٥)، والمعروفة بقصة آدم وحواء وهي من التقليد اليهودي في نهاية القرن العاشر. أي ان الفارق الزمني بين القصتين مايزيد عن ٣٥٠ سنة.

أضف إلى ذلك أنّ هناك مسافة زمنية طويلة بين الحدث الكتابي وبين زمن صياغة أو كتابة الحدث. هذا الزمن في الحقيقة أضافَ للحدث مستجدات لم تكون مع التلقليد الشفهي، بل جاءت مع التدوين وهي مهمة لأن الكاتب المُلهَم لا يستثني أحداث زمانه في صياغة حدث الماضي.

هذه المعلومات ربما تطرح الكثير من التساؤلات التي لسنا في صددها الآن ولكنها مهمة والسائل يتجاهلها أو حتى لا يعرفها. هذه المحاولات الكتابية التي ينقلها لنا الكاتب المُلهَم بالوحي هي تعبير عن حقيقة كون الله هو الخالق. وهي ليست معرفة إنسانية، الله هو الخالق ليس إكتشاف بشري بل هو وحي إلهي، أي أنّ الله يكشف عن ذاته كونه الخالق كمرحلة من مراحل تدبيره الخلاصي. يأتي الإلهام أي الدور الإنساني ليتقبّل هذه الحقيقة إيمانياً. لا يتوخى الكاتب الحقيقة العلمية أو التاريخية، هو ليس عالم ولا مؤرخ، بل هو مؤمن، هو لا يريد أن يشرح من هو الله وفقاً للعلم والتاريخ بل هو يريد أن ينقل إيمانه، كيف أنّ الله مهتم بخليقته وهو سبب وجودها واستمرارها.

٣ـ ما هو الحقيقي؟

ماذا نقصد بالحقيقي ؟ ما معنى الحقيقة وعن أي حقيقة نتكلم؟ هل هي حقيقة وجود الله؟ هل يمكن التكلم عن الحقيقة في ذاتها، أم نحن نبحث عن إثبات واقع معين نقصد به الحقيقة؟ ربما أستطيع الجزم بأنّ السؤال يكون كالآتي. للأسف لا يستطيع الكثير من المؤمنين التمييز بين الحقيقة والواقع. كل واقع هو حقيقة ولكن هل للحقيقة واقع معين خاص يمكنه التعبير عنه. عندما أشير إلى حجر وأقول هذا حجر. فهذا الواقع وهو حقيقة. ولكن عندما أعبّر عن شخص لكونه شجاع وقوي فأقول مثلاً أنت أسد. بالحقيقة ونظراً لمعرفتي الشخصية، يمكن تشبيه الحقيقة بواقع ما كتشبيه الشجاع بالأسد كرمز وبالتالي ليس بالضرورة أن تكون الحقيقة واقع لأنه في الواقع هو شخص مثله مثل