full screen background image

تأمل اليوم الثامن والعشرون من الشهر المريمي

1041

مريم مثالنا في الطاعة

إعداد الأخت مارتينا

ليست الطاعة إذعاناً سلبياً، وخضوعاً قصرياً، بل هي توافق إرادة المطيع مع إرادة آخر، وتبني رؤاهُ، بُغية تحقيق هدفٍ سامٍ. وبالتالي أن يطيع لا يلغي إرادتهِ، بل إنهُ ينمّيها، ولا يتردّى إلى دور الآلة المذل، بل إنهُ يفعل أعمق ما لديهِ من آليات الإصغاء والحوار. الطاعة تقتضي فريقاً يقترح باحترام، وآخر يستجيب بحب، فريقاً يشير إلى هدف وفريقاً آخر يتبنى الإشارة بفرح. ليست الطاعة اختبار ظلم، بل هي اختبار حرية. هي ترحيب ٌ فرحٌ بهدفٍ سامٍ، هي جواب حب، تلك كانت طاعة مريم. فتلك المخلوقة الرائعة لم تدع أحداً يسلبها إرادتها حتى خالقه. غير أنها بقولها “نعم” استسلمت لهُ بحرية وانتظمت في مدار تاريخ الخلاص، بقسطٍ رفيع من الوعي والمسؤولية. هذهِ الاستجابة تتطلب استعدادات روحية متميزة وهي موجودة في مريم أمّنا، وأولها قابلية الإصغاء، ثم التأمل فيما تصغي إليهِ وأخيراً القُدرة على الاستجابة الفاعلة (الطاعة) وفقاً لما أصغت إليهِ وتأملت فيهِ. فالأمر ليس سماع وتأملات بل إصغاء وقرار وعمل وجهوزية للخدمة حيثُ يُريد الله، في حضور منتبهٍ إلى حاجة الآخر. فأعطت بذلك “نعم” غير مشروطة لله لتكون في خدمة الرسالة التي كُلّفت بها، عارفة أن ذلك يعني أن تستعد لتقبل دروساً صعبة، بل مؤلمة: “وأنتِ سينفذُ سيفٌ في نفسكِ لتنكشف الأفكار عن قلوب ِ كثيرين” (لوقا2: 35).

عاشت أمّنا مريم دعوتها بطاعة وأمانة تامة، فأضحت “أيقونة الطاعة” من خلال السخاء الذي أظهرتهُ لله والناس. مريم أَمَةُ الرب، خادمة التدبير الإلهي وحاضرة إلى جانب المحتاج تشهد لحضور الله المحب في حياتها، وهو ما تطلبهُ هي منا أيضاً من خلال الإصغاء الأمين لدعوة الله لنا والحضور المتواضع إلى جانب القريب، فنحيا الإنسانية التي يتطلع إليها ربنا. اعترفت مريم بأنها “أمةُ الرب” وأولى صفات الأمة هي الطاعة. الملاك جبرائيل سمّاها “الممتلئة نعمة”، أي إنها متجهة بكليتها صوب الله، وليست النعمة شيئاً خارجياً، بل هي حب الله الذي يقطننا، وحضورهُ الذي يحيط بنا. ومريم قد تخلت عن مشيئتها الخاصة لمشيئة الرب مستسلمة كُليةً لإلهامات الروح القدس. عيناها محدقتان أبداً إلى ما يرضي الله من أجل تنفيذهِ، ونفسها ذائبة في طاعة الله، جاهزة للانسكاب في القالب الذي يُعدّهُ لها، كيما يصوغها كما يروق لهُ. وقد برهنت في مختلف مراحل حياتها، عن استجابتها بلا تلكؤ، إلى كل إيحاءات الله، كما يُظهر سفرها إلى بيت لحم وهي على وشك الولادة، وهروبها إلى مصر إنقاذاً لحياة طفلها الإلهي، بلا ضمان ولا أمان، وبذل ابنها للصلب مساهمة في الفداء.

باعتراف مريم أنها “أَمَة الرب”، أقرّت أن النعمة التي مُلئت بها، لم تكن حظوةً فحسب، بل كانت دعوةً إلى الخدمة والمحبة. طاعتها لم تكن قيداً لحريتها، فهي راغبة فيما تخضع لهُ، وموافقة عليهِ بكل حريتها. وليست حريتها في فعل ما تشاء، بل إرادة ما تفعل، خضوعاً لمشيئة الله، وفي رغبتها فيهِ، وبموافقتها عليهِ بملء حريتها. ومريم هي النموذج الأسمى للطاعة المعاشة بحرية ورضى. ولم تساورها لحظةً، رغبةٌ في الاستقلال بإرادتها عن إرادة الله، لأن ذلك يتعارض مع حبها المطلق لهُ الرغبة، عندها تتحول إلى فعل شكرٍ، والنعمة عندها تقديس الطبيعة، وهي موقنة بأن كل رغبةٍ خاصةٍ هي دون ما يبتغيهِ الله لها، فتدع الروح القدس يرغب فيها ويبلغها رغباتهِ. لم تكن إذن طاعة العذراء مجرد تسليم بما أُكرهت عليهِ إكراهاً، بل كانت قبولاً طوعياً بمشيئة الله، وانصهاراً بها، كلّفها أكبر التضحيات وأسخاها.

لنصلِّ: السلام عليك يا مريم أمنا القديسة، والدة الله، الكنز الجليل للكون بأسره، السراج الذي لا ينطفئ، تاج البتوليّة، داعمة الإيمان الحقيقي، يا هيكلاً لا يمكن هدمه، يا مسكن من لا يمكن لأي مكان أن يحتويه، قودينا آمنين إلى حضرة يسوع، ربنا القائم من بين الأموات، حتى نشترك في حياته، فرحه، وحبه، معك ومع جميع القديسين للأبد. آمين.