full screen background image

الصوم

832

الأخت فيليب قرما

سنتكلم اليوم عن الصوم الكبير.

الصوم هو ” خزانة مفتوحة للعقلاء وفرحُ قلب للعلماء، وغذاء عقل لدى الحكماء “. الصوم يمنح نوعين من الجمال: يزيّن الجسد والنفس معاً. إنه يعطي النفس سناءً أمام الملائكة، ويعطي الجسد بهاءً أمام البشر. هذا ما يقوله لنا مار أفرام الملقب بقيثارة الروح القدس في أناشيده الرائعة حول الصوم (7: 1 ، 6: 7).

الصوم الكبير هو زمن التوبة الذي يسبق العيد الكبير. بمعنى آخر هو أحد أزمنة السنة الطقسية الذي يأتي مباشرة قبل عيد القيامة. فأمنا الكنيسة توصينا به في وصيتها الثانية ( صم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة ).

إنه ذكرى صوم ربنا يسوع 40 يوماً في البرية بعد عماده من يوحنا في نهر الاردن وذلك قبل أن يباشر رسالته العامة وحياته العلنية. أي قبل أن يبشِّر ويعلّم ويصنع العجائب. إنَّ يسوع بمسيرة صومه وصلاته تقوّى بالله وتغلّب على تجارب الشيطان. ومن هنا، زمن الصوم الكبير بالنسبة لنا هو زمن الاقتداء بالمسيح المعلم الأكبر في الانتصار على تجارب الحياة وفي الزهد والصلاة والاتحاد بالله.

قبل كل شيء، لماذا نسمّي هذا الصوم، الصوم الكبير ( صوما ربّا )؟ بالحقيقة نسمّي هذا الصوم، الصوم الكبير، لأنَّ عيد القيامة هو أكبر الأعياد المسيحية، القديس غريغوريوس النزينزي اللاهوتي الكبير يقول: إنَّ عيد القيامة هو عيد الاعياد وأهمُّ الاحتفالات، كالشمس التي تضيء كلَّ الأعياد الأخرى. وفي كتاب طقس صلاة الكنيسة الكلدانية ( الحوذرة، الجزء الثاني ص289 )، يقول: هذا هو العيد العظيم فجر جميع الأعياد. ولهذا السبب نقول عن هذا الصوم هو الصوم الكبير. فَكِبَرُهُ لا يأتي من عدد أيام الصوم، وإنَّما يأتي من عظمة عيد القيامة الذي نتهيأ له بهذا الصوم. المسيحي في صومه، وقبل كلِّ شيء، يضع أمام عينيه أنه سائر إلى القيامة. 

ُيسَمَّى الصوم الكبير السابق لعيد القيامة الذي نحن بصدده الان ” الصوم الأربعيني “،  وأحياناً ُيَسمَّى الصوم الخمسيني لأنَّ الكنيسة أضافت إليه اسبوع الآلام. ويكون هكذا عدد الايام من أول أحد للصوم حتى أحد القيامة ضمناً خمسين يوما. وكلتا التسميتين ً صحيحة، سواء قلنا الصوم الأربعيني أو الصوم الخمسيني.

 الرب يسوع صام 40 يوماً في البرّية قبل أن يعلن دستوره على المؤمنين الذي سُمّيَ أيضاً الموعظة على الجبل، بمعنى آخر، المسيح تهيأ لعمله الخلاصي بصوم دام اربعين يوماً. والكنيسة أمنا تريد أن تحيي ذكرى صوم يسوع بصوم مماثل محافظة على العدد 40.

إنَّ بنية الصوم الكبير وتحديد أيامه بأربعين، يعودان الى أواخر القرن الرابع، بحيث أن عدد الأربعين تأثَّر بالرموز الكتابية الواردة في الكتاب المقدس. فالطوفان دام 40 يوماً، والزمن الذي أمضاه موسى على جبل سيناء أيضاً 40 يوماً كما ورد في سفر الخروج ( خر34/28، وتث9/9 ). كان خلالها يفاوض الله ويستعد لاقتبال الكلمات العشر أو الوصايا العشر من الله، بمعنى آخر أنَّ موسى تهيأ للقاء الله بصوم دام 40 يوماً. كذلك ايليا بأمر من الملاك سار الى جبل حوريب على قدميه لا يأكل ولا يشرب 40 يوماً قبل ملاقاته الرب (1مل19/8). أي أنَّ ايليا هو الآخر لمّا كان هدفه أن يلتقي الرب على جبل حوريب استعدَّ بصوم دام 40 يوماً، وجبل حوريب يدعى في الكتاب المقدس جبل الله، كان يصعد المؤمنون إليه لانعاش ايمانهم وإرواء عطشهم الروحي والامتلاء من الله قبل نقل إرادته الى الشعب. إنَّ الأربعين ترمز أيضاً الى مسيرة الشعب الاسرائيلي في صحراء سيناء 40 سنة. وكل هذه الرموز التي ذكرتُها، الطوفان وصوم موسى وايليا ومسيرة الشعب الاسرائيلي، تعطي الصوم الكبير بعداً خلاصياً فادياً…

نرجع الى العهد القديم لنرى كيف كان اليهود يصومون. كان اليهود يصومون يوماً واحداً يدعى بيوم كيبور أو الكفارة. في هذا اليوم تعترف الأمّة كلّها بخطيئتها وتلتمس غفران الله والتطهير. ولكن إلى جانب هذا الصوم، كانت هناك أصوام طوعية غير مفروضة، وأحيانا كان يُنادى بالصوم في أيام الشدة والضيق. فكان اليهود يحفظون أصوامهم بتقشف، منقطعين عن الطعام والشراب وعن كل لذَّة جسدية من غروب الشمس إلى غروب اليوم التالي، وكانوا يلبسون المسح على أجسادهم وينثرون الرماد على رؤوسهم ويتركون أيديهم غير مغسولة ورؤوسهم غير مدهونة. وكانوا يصرخون ويتضرعون الى الله ويبكون، طالبين منه الخلاص.

 إنّهم كانوا يصومون إمّا للتقرب من الله تعالى، أو للتكفير عن الخطايا، أو لتذكّر الكوارث التي حلّت بالبلاد وأهمها سقوط اورشليم مرة اولى عام 587 ق.م. على يد البابليين، وعام 70 ب.م. على يد الرومان. وكانوا دائماً يقرنون هذا الصوم بالصلاة، لطلب العون الالهي أثناء الضيقات. فنذكر على سبيل المثال لا الحصر، سفر استير، إنَّه حالة نموذجية وجد شعب اسرائيل فيها نفسه في قبضة محنة خطيرة. فلو رجعنا إلى سفر استير فصل 4  نرى أنه عند اعلان قرار إبادة الشعب اليهودي، الذي تلاه هامان وزير الملك احشويرش، بعد أن سمعه مردكاي ابن عم استير الملكة، الموظف اليهودي عند الملك، مزّق مردكاي ثيابه ولبس المسح وذرَّ الرماد (استير 4/1). ولم يكن وحده بل شاركته في أعماله، كل المقاطعات بالدموع والنحيب، ونام كلُّهم على المسح والرماد (استير4/3). ولمّا علمت استير الملكة بهذا الوضع المأسوي، الذي سيبيد شعبها، لم تكتفِ بالصلاة، بل مارست مع جميع جواريها وخدمها وسكان شوشن صوماً دام 3 أيام، وطلبت من الرب أن يعينها، لتخلِّص شعبها، وبصومها وصلواتها مع كل الذين اشتركوا معها أُنقِذوا من الموت. هكذا فعل أهل نينوى الذين تابوا الى الله بكرز يونان، صاموا وصلّوا ثلاثة أيام ونجوا كلهم من الهلاك.

فالرب يسوع لم يفرض علينا الصوم ولم يحدِّد مواسمه أو أيامه. الكنيسة هي التي فرضت الصوم على أبنائها، وذلك لكي تشجِّعهم وتدفعهم على السير في خطى الشخصيات البارة من العهد القديم، أمثال موسى وايليا ودانيال وغيرهم، ولا سيما كي نقتدي بالمسيح المثال الأعلى لحياتنا. فغاية صومنا هي التوبة والمصالحة مع الله، التي تهيئها المصالحة مع الاخوة البشر، والتشبه بالمسيح الصائم لأجلنا والاستفادة من عمله الخلاصي. ولهذا علينا ان نقوم بهذا الصوم او بفريضة الصوم هذه تلقائيّاً حباً بالله، لا لكونها شريعة تربطنا وانما لأنها فعلاً كالروح الذي يحيينا.

الموضوع له صلة