الاخت لويزا ججو
مواضيع من نشرة العهد
ظهرت منذ القرون المسيحية الأولى تيارات فكرية حاولت أن تفسّر وتشرح العقائد المسيحية، وأن تؤثر سلبًا فيها، وذلك بانتشارها بين الجماعات الفتيّة. لقد زرعت هذه التيارات الكثير من الشكوك في قلوب المؤمنين البسطاء، ولا سيما أن المسيحية في ذلك الوقت كانت متألفة من جماعات صغيرة، تسمى بالجماعات المحلية أو البيتية. كان المؤمنون يجتمعون في البيوت ويقيمون الافخارستيا والصلوات. لذا جاء تأثير التيارات كبيرًا جدًا في تلك الحقبة الزمنية، وذلك بالنظر الى أن الجماعات لم تكن لديها صياغات شرائعية وقوانين وأنظمة عقائدية للتعبير عن إيمانها.
أدى الضعف الموجود في الجماعات المسيحية الى إفساح المجال أمام العديد من البِدَع والتيارات التي كانت تدّعي بأن لها التعاليم الصحيحة وانها ضد البِدَع الموجودة، وان على المؤمنين أن يتبعوها لكي يكونوا على الطريق الصحيح (طريق المسيح). على مرّ الزمن ظهر العديد من الأشخاص الذين تبنّوا هذه البِدَع وتمسّكوا بهذه الأفكار، فحاولت الكنيسة أن تقدم جوابها على تيارات كهذه، وهكذا تكوّن لنا إرث غني من كتابات الآباء في مختلف المواضيع ذات العلاقة. فيما خصصت الكنيسة أيضًا مَجامع كبرى للرد على بعض منها. سأحاول في هذه الأسطر التعريف بثلاث منها وهي: مرقيون – المرقونية، ماني – المانوية، وآريوس – الآريوسية. ولكن قبل التطرّق إليها، أود أن أقف عند الغنوصية التي أثّرت كثيرًا في هؤلاء المعلمين وفي أفكارهم وشروحاتهم:
الغنوصية
تعليم ظهر منذ القرن المسيحي الأول، وهدّد المسيحية في ذلك الوقت، إذ أثّرت أفكار الغنوصية في بعض الناس، لا سيما في الطبقات المثقفة، وانتشرت بينهم آنذاك. التَزَمَت الثنائية في تعليمها، فتُعلّم أن هناك فصلاً ما بين عالمين: عالم فوق سماوي وعالم تحت أرضي. أما الخلاص فيكون بالمعرفة وهذه المعرفة تُمنح للكاملين فقط كنعمة. لا تؤمن الغنوصية بقيامة الأجساد، بل تحتقر الجسد. هكذا انتشرت حركة الغنوصية تحت اسم المسيحية فكان تأثيرها كبيرًا جدًا في المسيحيين البسطاء.
مرقيون
هو ابن أسقف في بلاد البنطس، عاش في القرن الثاني. سافر الى روما سنة140، ثم أصبح رئيسًا للجماعة التي قام بتنظيمها في عصر كانت الكنيسة فيه تحت تأثير اضطهاد شديد من قِبل اليهود والوثنيون. انتشرت جماعته بشكل ملحوظ مؤمنة بتعاليمه التي أَكدت على: الثنائية (بشكل يماثل الثنائية لدى الغنوصية)، وتُميّز بين العهدين القديم والجديد، فرفضَ العهد القديم إذ اعتبره إله الشر إزاء العهد الجديد الذي اعتبره إله الخير، لأنه يقدم لنا “المسيح” محرّر الإنسان من الشريعة بصليبه. فقال: “ان الشريعة هي التي تجلب الشر للإنسان لأنه مادي وشرير، أما العهد الجديد (المسيح) فهو يحرر الإنسان من الشريعة بصليبه ويهيئه للإيمان وللحرية”.
قدّم الخلاص عن طريق المعرفة، وآمن بأن القيامة “للنفس فقط”. فلم يؤمن بقيامة الأجساد، وسمحَ بتكرار المعمودية لمن سقط في الخطيئة.
يُذكر ان أبرز من حاربه كان القديسون يستينوس وايريانوس وترتليانوس.
ماني
ولد بالقرب من المدائن، وانحدر ماني من بيت لافاط في بلاد الفرس وانتمى الى الجماعة اليهودية لمدة 20 سنة. ثم تركها وبدأ ينادي بتعاليمه الخاصة “الثنائية”، وبديانة خاصة أسماها بـ “الديانة المقدسة”. انتشر تعليمه أولاً في آسيا ثم في أجزاء من الامبراطورية الرومانية، وأفريقيا الشمالية.
كان تعليمه ملخّص جميع الديانات الموجودة في عصره (المزدية، اليهودية، المسيحية والبوذية)، حيث كان نموذجًا للثنائية التي تزعم ان للعالم إلهين: إله الخير وهو النور، وإله الشر وهو الظلمة. أعلن نفسه الفارقليط (الروح القدس) الذي تكلّم عنه المسيح يسوع، أسس كنيسة أو ديانة تشمل خلاصة ما عاشه عصره من ديانات. أنكر القيامة وحرّم الزواج، مؤمنًا بأن المسيح لم يأخذ جسدًا ونفسًا ولكنه ظهر خيالاً.
آريوس
ولد في ليبيا الحالية، وتلقّى العِلم في أنطاكيا. تتلمذ على يد لوقيانوس ورُسم كاهنًا في الاسكندرية، حيث أُقيم مسؤولاً عن كنيسة هناك.
تحت تأثير الفلسفة الأفلاطونية والرواقية نشر تعاليمه انطلاقًا من الاهتمام بالعلاقة بين الآب والابن في الثالوث الأقدس. زعم آريوس أن هناك عدم مساواة مطلقة بين الآب والابن. فأتت تعاليمه فيما يخص الروح القدس نتيجة لهذا الموقف.
أعلن أن الكلمة ليس أزليًا كالآب بل هو مخلوق، إنما أوجده الآب مباشرة قبل الزمن، وهذا لم يفعله مع سائر المخلوقات. ثم ان الابن ليس من جوهر الآب، فهو مولود ومخلوق معًا، انه ليس إلهًا إلا بالمشاركة. انه الوسيط بين الله والعالم. من هذا المنطلق أنكر آريوس لاهوت المسيح وعقيدة الثالوث، مما دعا الكنيسة عقد مجمع في نيقية عام 325 محرمةً تعاليمه.
بالرغم من ظهور بِدَع كثيرة وأفكار عديدة وتيارات واتجاهات مختلفة، وعلى مَرّ الأزمنة والعصور، حاولت هذه التيارات أن تؤثر في أفكار الناس وفي العقائد الإيمانية للجماعة المسيحية. لكن ظلّت الكنيسة والمؤمنون ملتزمين بإيمانهم بالمسيح، هذا الإيمان الذي استلموه من الرسل والآباء واستمروا محافظين على الإرث والتقليد الصحيح، وحاربوا كل تلك البِدَع التي حاولت التأثير في إيمانهم وتشويه صورة المسيحية الصحيحة كما عاشها الرسل وعلّموها وكما علّمها الآباء ونقلوها إلينا من خلال كتاباتهم وخبرتهم الإيمانية.
ان ما كانت الكنيسة بحاجة إليه، وما زالت هو نعمة التمييز، بين التعليم المنحرفة والتعليم الصحيح والسلوك الملتزم المعبّر عن إيماننا المسيحي، لئلا نكون في مسيرة تشوّه صورة المسيح وتشوّه عقائدنا الإيمانية التي تسلمناها من آبائنا. فعلينا بالتيقّظ لتأتي حياتنا شهادة صادقة لإيماننا ببشارة يسوع المسيح وفق روحية الإنجيل، فنكون كنيسة حية لله، وملكوته بين الناس.