full screen background image

الحبل بلا دنس

1506

الحبل بلا دنس

عندما يستولي الرب على شخص ما ليصنع منه ما يريد من أجل رسالة معينة، فإنه يهيئه ويكيّفه. فمثلاً، عندما أراد أن يجعل من أشعيا نبيّاً، طهَّر شفتيه بجمرة مستعرة. وعندما أراد أن يختار له سابقاً مثل يوحنا، فهو يبرِّره في بطن أمه. وكثيرون أعدَّهم الرب قبل أن يرسلهم، فهل تُستثنى أُم الرب من القاعدة؟

بالعكس… وإن كان أولئك قد هُيِّئوا في ما بعد، فإنَّ مريم هُيِّئَت في ما قبل. فمريم حُبِلَ بها في بطن أمها بلا خطيئة أصلية. بكلام آخر، أنَّ مريم منذ أول لحظة الحبل بها عُصِمَت من وصمة الخطيئة الأصلية. فالحبل بلا دنس هو ” استيلاء الله على مريم، وقبولٌ منها في الايمان، للاشتراك في التدبير الخلاصي”.

إنَّ الحبل بالعذراء بدون دنس الخطيئة الأصلية يُظهِر انَّ البشرية، في إحدى نسائها، اشتركت في التدبير الالهي الأزلي… كما أنَّ الحبل بلا دنس شهادة لنا على أنَّ الشر لن ينتصب في وجه الله حتى يطال الجذور. فالخطيئة أمر يمكن تجاوزه، لأنها فقدت من حِدَّتِها وسطوتها. حتى الخطيئة الأصلية لا يُمكِنُها أن تفسد التدبير الخلاصي، وإن هي عرقلت كثيراً تجاوب الانسان مع ذلك التدبير.
     إنَّ راهبة المحبة، كاترين لابوريه، أُنعِمَ عليها، في 27/11/1830، بظهور للعذراء تراءت فيه وهي تسحق برجلها رأس الحية، ثمَّ أَحاطت بها هذه الكلمات: “يا مريم التي حُبِلَ بها بلا دنس أصلي، صلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك”. بعد ذلك سَمِعَت كاترين صوتاً يقول: “إضربي أيقونة على هذا الشكل. وكل من يلبسها مُغَفَّرَةً ينال نِعَماً كبيرة، لا سيَّما إذا لُبِسَت مُعَلَّقَةً في العنق. وستكون النعم غزيرة لذوي الثقة”. فعلت كاترين كما قالت لها العذراء، فكثرت النعم والعجائب، حتى أطلقوا على الأيقونة لقب “العجائبية”.

فراح المؤمنون، بدافع التقوى وعرفان الجميل يُبدون التمنّي لو أنَّ الكنيسة تكرِّس نهائياً امتياز الحبل بها بلا دنس… وبعد أن سُمِحَ أَن يُضافَ إلى طلبة العذراء “يا سلطانة محبولاً بها بلا دنس أصلي”، راحت الالتماسات تتوافد بكثرة إلى الكرسي الرسولي، من أجل إعلان العقيدة رسمياً. فكانت آخر مراحل التهيئة أنَّ البابا بيوس التاسع وافق، سنة 1847، على “فرض” خاص بالحبل بلا دنس، مُرفق بقداس ليوم العيد وطوال التساعية. وفي السنة التالية، أنشأَ مجلس لاهوتيين لدرس مسألة الاعلان. ثمَّ عيَّن لجنة تحضيرية للمرحلة ما قبل الاخيرة. وأَذاعَ سنة 1849، رسالته العامة “Ubi primum”  التي اَعلَمَ بها الأساقفة أنه عازِمٌ على أن يعرضَ مسألة الحبل بلا دنس للتدقيق الأخير. وافق الجميع ما عدا أربعة أو خمسة، من أصل 603. ولقد عارض أولئك الأربعة أو الخمسة لا العقيدة بحد ذاتها، بل فكرة الاعلان,.. فكان أنَّ البابا بيوس التاسع، في 8/12/1854، في رسالتهIneffabilis Deus ، أعلن رسمياً عقيدة الحبل بالعذراء مريم بلا دنس. هذا نصُّها: “تمجيداً للثالوث الأقدس غير المنظور، وإكراماً لمريم العذراء والدة الاله، وتعزيزاً للإيمان الكاثوليكي، وإعلاءً لشأن الدين المسيحي، إننا، بسلطان سيدنا يسوع المسيح والرسولين الطوباويين بطرس وبولس، وبسلطاننا الخاص، نُعلن ونحكم ونحدّد أنّ التعليم القائل إنّ الطوباوية مريم العذراء، وبنعمة الله القادر على كل شيء وإنعام منه فريد، وبالنظر المسبق الى استحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري، قد حُفِظت منذ اللحظة الاولى للحبل بها من كل وصمة متعلقة بالخطيئة الأصلية، هو تعليم أوحى الله به، فعلى جميع المؤمنين الايمان به ايماناً ثابتاً ودائماً”.

مادة العقيدة وموضوعها: هي أنَّ مريم قد حُفِظت من لطخة الخطيئة الأصلية، تلك التي يوصَم بها كل متحدِّر من آدم بولادة طبيعية، ومن نتائجها: حرمان القداسة والبرّ الأصليين، الموت الروحي، العداوة لله. فمريم تتمتع منذ لحظة الحبل بها، بالصلاح الباطني، والنعمة المبرِّرة، والصداقة الالهية، وبنوّة التبني بيسوع المسيح.  أمّا موضوع العقيدة فهو العذراء مريم، فور اتحاد نفسها بجسدها في بطن أمها.

كيفية الامتياز: حَظِيَت مريم بهذا الامتياز بالنظر المسبق الى استحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري. كان ذلك، خلافاً لما حصل مثلاً ليوحنا المعمدان، قبل أي ” تلوّث ” بالشر الوراثي، بحيث أنَّ هذا الشر لم يمسَّها.

هذا الامتياز “إنعام فريد” كما جاء في البراءة. لكنَّ مريم افتُديَت حقاً، وكان ينبغي أن تُفتَدى، بصفتها خليقة. هل يعني ذلك أنها حُفِظَت من الخطيئة كما حُفِظَ الملائكة أو أبوانا الأوّلان؟ كلاّ. فهؤلاء قد حُفِظوا بمجرد إرادة الله الخالق لا مثل مريم، بالنظر المسبق إلى استحقاقات المسيح… أتكون حُفِظت كما حُفِظ ابنها يسوع؟ كلاّ. فيسوع لم يُحبَل به، مثل مريم، بالطريقة الطبيعية، وليس له والد بحسب الجسد، بل حُبِل به بقدرة الروح القدس.

     امتياز مؤكَّد: جاء في البراءة البابوية أنَّ هذا الامتياز “عقيدة أوحى الله بها”. فلمّا كان أنَّ الوحي قد اُودِع كلّه في الكتاب المقدس والتقليد الرسولي، اقتضى الأمر أن تكون العقيدة المُعلَنة بشأن الحبل بلا دنس مستندة موضوعياً إلى هذين المصدرين، أو إلى واحد منهما، وأقلَّه ضمناً.
     الحبل بلا دنس في الكتاب المقدس: قال الرب الاله للشيطان المنتصر على آدم وحواء، والمتمثِّل في الحية: “ها إني أجعل عداوة بينكِ (الحيّة) وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلها، فهو يسحق رأسكِ وأنتِ تُصيبين عَقِبَهُ”. هذا النص من سفر التكوين (3/15)، والذي يسمّونه “الإنجيل الأول”، يتناول، بدون ريب، المسيح المنتصر على الشيطان. إنَّ “نسل المرأة” يعني المسيح الذي نعرف عنه اليوم، من خلال تطوُّر الوحي، أنَّ خلاص العالم متعلِّقٌ به (تكوين 22/18، غل 3/16). فهو وحده قد أتى إلى العالم لِيَطرد منه الشيطان، ويدمِّر أعماله، ويقضي عليه. وعنه وحده قيلَ إنّه نسل المرأة في تحقيق عمله الفدائي (غل 4/4-5). هذا ما فهِمَه جميع الآباء، في الشرق والغرب.

فإن كان “نسل المرأة” هو المسيح، ألا ينبغي أن تكون “المرأة” هي أمه مريم؟ كيف لا، وعنها وحدها يُقال في الكتاب إنَّ يسوع هو نسلها. كيف لا، وقد قيل في المسيح، بصفته ابناً لمريم لا أبَ له بشري، إنَّه “مولود من امرأة” (غل 4/4)، حقّاً وبطريقة فريدة. فالعداوة التي يُنبِئُ بها الله لن تكون فقط بين نسل الحيّة ونسل المرأة، بين قوى الشر والمسيح، بل ستكون أيضاً وأوَّلاً بين الحية والمرأة، بين قِوى الشر ومريم “ها إنّي أجعلُ عداوة بينكِ وبين المرأة”.

أجل، إنَّ المرأة ستشترك مع نسلها (مريم مع ابنها يسوع) في سحق رأس الحية الجهنميّة.
نرى هنا أنَّ آدم قد أُزيحَ من مجال هذه البشرى، على الرغم من كونه الأب الطبيعي للجنس البشري ورأسه المعنوي. فالعداوة منسوبة إلى المرأة لا إلى الرجل، إلى نسل المرأة دون الرجل. لِمَ هذا الإغفال أَليسَ لأنَّ المخلِّص سيولَد “من امرأة” دون تدخُّل الرجل؟

فالأمر يتعلَّق، إذاً، في هذه البشرى، بحوّاء الجديدة وآدم الجديد المولود منها وحدها، واللذين يشتركان معاً في الانتصار كما في النضال. فكأنّي بالله قد وجّه الكلام إلى الشيطان قائلاً: ” كما أنك استعملتَ المرأة لِتُسقِط الرجل الأول فتدمِّر عملي، كذلك أيضاً سأستعمل المرأة لأُدَمِّر عملك وأُصلِح عملي، ابتداءً بالمرأة نفسها”.

هذا ما فهمه آباء الكنيسة. يقول مار أفرام: “كان الموت بحواء، والحياة بمريم… ما كان أداة للموت، أصبح أداةً للحياة”. ويقابل الآباء بين محاورة إبليس لحوّاء ومحاورة جبرائيل للعذراء. فكبرياء حوّاء وعصيانها يقابلهما تواضع العذراء وخضوعها. الخراب الذي سبّبته الواحدة يقابله الاصلاح الذي سبّبته الأخرى.

سلام الملاك وسلام أليصابات: رأينا سابقاً كم كان غنيّاً بالمعاني كلام الملاك “يا ممتلئة نعمة”. كذلك أيضاً، نجد نفس الغنى في كلام أليصابات لمّا قالت وهي “ممتلئة من الروح القدس”، إنَّ نسيبتها مريم ” مباركة في النساء” (لو1/42). فإنَّ الأمر يتعلَّق ببركة فريدة ومميَّزة، تنبثق من العلاقة الحميمة بين مريم وذلك الذي هو ” ثمرة بطنها المباركة”. هذا يعني أنَّ امتياز الحبل بلا دنس الكامن ضمناً في السلام الملائكي، والمشهود له ضمناً في سلام أليصابات، هو ملازم لتعليم الآباء والملافنة. هكذا في نظر يوستينوس وإيريناوس وأفرام وأبيفانُس، الولد والوالدة متَّحِدان في البركة الالهية كما هما متَّحدان – بصفتهما آدم الجديد وحوّاء الجديدة – في النضال ضد الحيَّة الجهنّمية وإنهاض الجنس البشري. إنَّما ليس عند الآباء تعليمٌ صريح بالحبل بلا دنس، بل تعليمٌ ضمني أو مُعادل، ولكن حقيقي، من حيث إنَّ الحبل بلا دنس جزءٌ لا يتجزَّأ من الامتلاء بالنعمة، والاتِّحاد الفريد بالله، والبركة الفريدة. وذلك من جرّاء كونها أمَّ الكلمة الجديدة وحوّاء الجديدة.

الحبل بلا دنس عند آباء الكنيسة حتّى مجمع نيقيا الأول، سنة 325، كان الآباء يؤكِّدون على كون مريم حوّاء الجديدة والدة آدم الجديد الكلمة المتجسِّد. يقول يوستينوس: ” تمخَّضت حوّاء، وهي عذراء بلا فساد، بكلام الحيّة، فولدت عصياناً وموتاً. امّا مريم فتمخَّضَت بالأيمان والفرح، لمّا بشَّرها الملاك جبرائيل وقالت ليكن لي حسب قولك، فوُلِد منها ذاك الذي بهِ يُبيد الحية”. ويقول إيريناوس: ” كما أنَّ الجنس البشري قد أُخضِعَ للموت بسبب عذراء، هكذا أيضاً تحرَّرَ بعذراء، إذ كُفِّرَ عن معصية عذراء بطاعة عذراء.

فإن قيل في حوّاء الاولى إنَّها “عذراء بلا فساد” (يوستينوس)، ألا يصِحُّ القول، أكثر فأكثر، في حوّاء الجديدة؟ بكلّ تأكيد، لا سيَّما أنَّ الآباء كانوا يعتبرون لطخة الخطيئة الأصلية “فساداً يَصِمُ بني آدم، أمّا الفداء فعودة إلى “عدم قابلية الفساد”. وسرعان ما انتقل الآباء من ذلك الى كلام يتضمّن فكرة الحبل بلا دنس، كما يُلمِّح هيبوليتوس (+325) عندما يُشبِّه المخلِّص بتابوت العهد المصنوع من ” خشب غير قابل للفساد”، ويقول: “الرب منزَّه عن الخطيئة، لأنّه في طبيعته البشرية، من خشب غير قابلٍ للفساد، أي من العذراء والروح القدس”. فإن كانت العذراء “خشباً غير قابل للفساد”، فهي إذاً، مثلَ الذي كوَّنَته من ذاتها، “منزَّهة عن الخطيئة” وكلّية النقاء.

الحبل بلا دنس عند آباء الكنيسة – حتى مجمع أفسس 431: في الحقبة الممتدَّة بين مجمعي نيقيا وأفسس، كان الآباء يُؤكِّدون على كون مريم كلّية القداسة. إنّها “العذراء النقية دائماً وفي كل شيء”، جسداً وروحاً ونفساً. ففي نظر أبيفانس، “هي مريم من أدخل العالم الى الحياة الحقيقية، لأنها ولدت الحي الأكبر، ولأنها أم الأحياء”. دور مثل هذا يقتضي نعمة فائقة وقداسة فريدة. لذا فإنَّ أبيفانس يصف مريم بأنها مسكنٌ وهيكل ٌهيَّأهما الله، بأعجوبة خارقة، لتجسّد الكلمة. كما ويقول إنّ مريم ليست “العذراء القديسة فحسب، بل هي “الممتلئة نعمة كلّيّاً”. أمّا مار أفرام “مدّاح أمّ الله” فكان يقول مردِّداً ما طاب له كلمة “كلّياً”: مريم ممتلئة نعمة، طاهرة كلّياً، نقية كلّيّاً، بلا خطيئة كلّيّاً، بلا دنس كلّيّاً، بلا لوم كلّيّاً، جديرة كلّيّاً بالتمجيد، نزيهة كلّيّاً، طوباويّة كلّيّاً…عذراء نفساً وجسداً وروحاً… سفينة مقدّسة نجّتنا من طوفان الخطيئة، جميلة من طبيعتها، بيت قربان مقدَّس وهو صُنعُ يدي الكلمة الالهيّتين… غريبة كلّيّاً عن كل دنس وكلّ لطخة خطيئة”. ذلك أنَّ مريم هي أوَّلاً بأوَّل، أمّ الكلمة المتجسِّد. وهو قد “كوَّنَ أمَّه” بنفسه. فما أجمل وما أكملَ ما كوَّنه يسوع الفادي! … ويهتف مار أفرام قائلاً: ” يا أيتها القديسة كلّيّاً، يا أم الله! أنتِ وحدكِ الطاهرة كلّياً في جسدكِ وفي نفسكِ. أنتِ وحدكِ الأعلى بكثير من كلّ طهر ونقاء وكلّ نزاهة وكل بتولية. أنتِ وحدكِ الصائرة كلّياً مقرّ نِعَم الروح القدس كلّها!” ثمَّ يخاطب المسيح ويقول: “في الواقع، أنتَ وأمّك في منتهى الجمال من جميع الوجوه. ففيك يا رب لا مكانَ للعيب، ولا في أمّك مكان للدنس”.

ولقد جاء، في الكنيسة الكلدانية، على لسان يوحنا الموصلي: “من يستطيع أن يُدرِك عظائم تلك التي قُدِّسَت منذ أن حُبِلَ بها واختارها الله من الرَحِم؟ مباركة أنتِ يا جِزَّةً رآها جِدعون فعرف سرَّكِ، لأنَّ الندى الذي انصَبَّ على كلِّ الأمكنة فأفسدها، لم ينزِل عليكِ منه نقطة واحدة!”
أمّأ القديس جرمانوس، بطريرك القسطنطينية، فإنَّه يذهب الى أبعد بكثير فيتجاسر قائلاً في عظة له عن تقدمة مريم الى الهيكل: “ليس هو الهيكل ما يقَدِّسها، بل هي من يقدِّس قُدسَ الأقداس”!

ولقد جاء، في الكنيسة الأرمنية، على لسان فَرتان الكبير (القرن 12): أيها الكلمة الإلهي، المولود من الآب مثل النور بلا والدة، قد اخترتَ لكَ أُمّاً بريئة من الدنس وُلِدتَ منها بلا أب”. ويُخاطب مريم قائلاً: “أنتِ أمُّ الرب والدة الاله المرتفعة فوق الساروفيم والكاروبيم. أنتِ تابوت العهد، وإناء الذهب، والخِباء السرّي، الذي نزلَ فيه كلمة الآب”. ويقول البطريرك يعقوب الأوَّل (أواخر القرن 13) في عيد ميلاد العذراء: “اليوم نبتتْ من حنَّة تلك العوسجة، أعني مريم العذراء، التي اتَّقَدت فيها النار الإلهية بنورٍ لا يُدرَك، فرأى فيها موسى رمزاً إلى البتول. اليوم أعطانا الحَمَلان يواكيم وحنّة تلك الجِزَّة السماوية التي نزل عليها الندى، فأمطرتِ النعمة وسالَ منها نبعُ الحياة”.

كل ذلك يُبيِّن بوضوح أنَّ الشرقيين، بعد مجمع أفسس، آمنوا صراحة بالحبل بمريم بلا دنس الخطيئة الأصلية… وهو عندهم موضوع لا مجال فيه للشك ولا للاعتراض. ولذا، فهُم لم يتكلَّموا عليه إلاّ بالتلميح والإشارة… حتى الانفصالُ الذي حدث، في الجيل الحادي عشر، بين الكنيسة الرومانية والكنيسة البيزنطية، لم يؤثِّر في هذا المعتقد، لا بل تصاعدَ عندهم اللاهوت المريمي وبلغ الذروة بين الجيلين 14و15. وكلّ الخُطَب تُجاهِر، إمّا صراحةً وإمّا بالمعادلة، بالحبل بلا دنس بتلك التي كانت “إناءً مختاراً أهلاً لأن يكون أداةً صالحة للاتِّحاد الأقنومي بين الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية” (غريغوريوس بلاماس، رئيس أساقفة تسالونيكي).

وقصارى القول، إنّ عقيدة الحبل بلا دنس قد انتشرت، وحوفِظَ عليها بسلام، في الكنيسة الشرقية… أمّا عيد الحبل بلا دنس فلقد احتفلت به ابتداءً من أواخر الجيل السابع، تحت اسم “حبل حنة”. أمّا في الغرب فقد انطلق عيد الحبل بلا دنس في مدينة نابولي الايطالية، في أواسط القرن التاسع، وفي ايرلندا وانكلترا في أوائل القرن الحادي عشر، وفي فرنسا في أواسط القرن الثاني عشر، وفي ألمانيا في أواخر القرن نفسه.

وراح تكريم العذراء ينتشر بشكل غريب، فتتدخَّل السلطة الكنسية، مرة للموافقة ومرة للكبح… هكذا وافق رسمياًّ سيكستوس الرابع (1471-1484) على عيد الحبل، وحدَّدَ اسكندر السابع (1655-1667) موضوعه كما نعترف به اليوم، وعمَّمَه إكليمنضوس الحادي عشر (1700-1721) على الكنيسة الجامعة.

الحبل بلا دنس في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني: يقول ٍالمجمع: “كما ساهمت امرأة في عمل الموت، تُساهم أيضاً امرأة في الحياة. هذا ما يصحُّ بنوع غريب في أم يسوع، التي أفاضت على العالم الحياة المجدِّدة لكل شيء، والتي حباها الله نعماً تُلائم مهمتها السامية. وعليه فلا عجب أن يجري على لسان الآباء القديسين وصفُ أم الله بأنّها كلية القداسة، ومنزَّهة عن كل وصمة خطيئة، وكأنّ الروح القدس قد جبلها فكوَّنها خليقة جديدة. ولقد زَهَت عذراء الناصرة، منذ اللحظة الاولى للحبل بها، بقداسة وهّاجة وفريدة كلّياً، فحيّاها ملاك البشارة، الذي يتكلّم بما أمره الله، بأنّها “ممتلئة نعمة”.

قال يوحنا بولس الثاني، أثناء زيارته لمعبد لورد: “لماذا اختارت تسمية الحبل بلا دنس؟ لكي تُعَرِّفَ بنفسها. لِنَقُلها بصراحة: عالمنا في حاجة الى التوبة (كي يستعيد الشعور بالله، باستعادته الشعور بالخطيئة). والحال، إنَّ العذراء المنزَّهة عن الخطيئة تُذَكِّرُنا بهذه الحاجة الأساسية. إنها تقول لنا ما كانت تقوله لبرناديت: صلّوا للخطأة، تعالوا واغتسلوا، وتطهَّروا، واستقوا الحياة الجديدة. “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر1: 15). إنَّ العذراء البريئة تُؤَوِّن (تجعل آنيّاً) هذا الكلام الأوَّل للمسيح في الإنجيل”.

إنَّ ملاك الرب يوم البشارة (لوقا 1: 26- 38)، بعد أن دعا مريم لأن تفيض فرحاً قال لها كما كان يقول لموسى، وجدعون، وإرميا، واسحق، ويشوع بن نون، وداود: ” الرب معكِ! ” معكِ من أجل الرسالة التي ستوكَل إليكِ. ستقوم معاهدة خلاصية بين الله وبينك، لأنكِ ستقبضين بيدك على مصير الشعب وخلاصه، كما كان لكلِّ من سبقكِ من الآباء: موسى، يشوع، داود، ديبورة، يهوديت، أستير … مثلهم وأحسن منهم، ستُجنَّدين للكفاح الخلاصي. لقد ” بلغ ملءُ الزمان”، وها أنتِ، بنتُ صهيون، معنية مباشرةً بهذا الكفاح. ولذا فالرب معكِ وعداً وعوناً. ففي كلام الملاك هذا دعوة فريدة لخلاص الشعب. “ها أنتِ تحبلين في البطن”: هذا الكلام تلميحٌ إلى ما جاء في نبوءة صفنيا القائل: ” ترنَّمي يا ابنة صهيون. إنَّ الربَّ إلهكِ في وسطكِ، مقاتلاً ظافَراً ” (3: 14، 17). هذا يعني عند صفنيا، حضور الرب في وسط الهيكل المعاد بناؤه… ويقول النبي زكريا، باسم الرب: ” رنِّمي وافرحي يا بنت صهيون، فهاءنذا آتي وأسكن في وسطكِ” (2: 14)، من لا يرى في ذلك تلميحاً واضحاً إلى خباء المحضر، والغمام، علامتين لسكن الرب وسط شعبه؟ هذا الكلام هو للدلالة على أنَّ مريم هي ذلك الهيكل المعاد بناؤه، هي ذلك المسكن الجديد ليهوه، هي ذلك التابوت للعهد الجديد. وعندما تصبح أماًّ للمسيح، يأتي يهوه فيسكن فيها، في حشاها، ” في البطن

   مريم “أم الله”! هل هذا ممكن؟ أليس فيه تضخيم هائل؟ مريم أم الله! هل يُصدَّق؟ هل يُعقَل؟ … ولِمَ لا؟ مريم، أليست أم يسوع؟ ويسوع، أليس هو أقنوم ” الكلمة الذي تجسَّد؟ ” في البدء كان الكلمة. والكلمة كان لدى الله. وكان الكلمة الله. والكلمة صار جسداً وسكنَ فيما بيننا” (يو 1: 1، 14).  

   يسوع بنُ مريم ليس أقنوماً إنسانياً سكنَ الله فيه، ولا هو أقنوم إلهي سكنَ فيه إنسان. يسوع بنُ مريم هو حقاً اله، الاله المتجسّد، الاله بالذات قد أتى إلينا وسكنَ فيما بيننا، بعدما اتَّخذ الطبيعة البشرية في بطن أمه العذراء مريم. فلا يجوز القول إنَّ مريم هي أم يسوع الانسان، فيما الآب السماوي هو أب ليسوع الاله. لا، لا يجوز فإنَّ طبيعته الإنسانية والالهية متحدتان بلا انفصام في أقنومه الالهي الواحد، كما قد رأينا سابقاً.

الروح القدس يحلُّ عليكِ: لقد نوَّه المجمع الفاتيكاني الثاني بذلك لمّا قال إنَّ مريم ” قد عجنها الروح وكوَّنها خليقة جديدة “. هذا ما فعله لمّا – بعد أن جعلها بريئة من الخطيئة الأصلية لكي تصبح، في كيانها الأنثوي، أماً صالحة للمسيح صورة الآب الجوهرية – استولى عليها كلياً، يوم البشارة، ليرفعها الى المستوى الالهي. هذا هو معنى كلام الملاك: ” الروح القدس يأتي عليك، وقدرة العلي تظلّلكِ.  

إذاً ينبغي القول إنَّ مريم، باستيلاء الروح القدس عليها، قد ” أُلِّهت ” (رُفِعت الى المستوى الالهي). فعندما نقول إنَّ الطوباوية مريم هي أم الله، لا نعني أنها مصدر الالوهية، بل إنها أمُّ إنسان هو إله حق. إنَّ عبارة ” الممتلئة نعمة ” استُعمِلت بمثابة اسم علم للعذراء. إنها الممتلئة نعمة قبل أي بشرى بالامومة الالهية. فهي لم ” يُنعَم عليها ” بذلك، يوم البشارة، بل هي تتميز به بطريقة فريدة واستثنائية ودائمة. الامتلاء بالنعمة صفة من صفات كيانها بالذات، وتحوُّل جوهري في العمق. إنها المرأة الكاملة. يقول توما الاكويني: ” مُنِحت العذراء الطوباوية مريم امتلاءً كان لا بدَّ لها منه لتكون الخليقة الأقرب من صاحب النعمة ومبدعها. ذلك أنه كان عليها أن تتقبَّل، في ذاتها، ذلك الممتلئ كل نعمة. ولمّا ولدت ابنها، أسالت النعمة، إن جاز التعبير على كل البشر

  • كان الملاك جبرائيل قد أعلن، بشأن يوحنا المعمدان، أنه ” يمتلئ من الروح القدس وهو بعد في بطن أمه ” (لو 1: 15). إن كان السابق يُمنَح هذا الامتلاء في سبيل رسالته التحضيرية، فالنعمة التي مُنِحت إياها مريم، في سبيل أمومتها الالهية، ألا تفترض امتلاءً أسمى وأكمل؟ … هذا وإنَّ اليصابات، يوم تسمع سلام نسيبتها مريم الحامل بيسوع، سيرتكض الجنين (حرفياً، سيهتز) في بطنها، وتمتلئ من الروح القدس. فإذا كانت مريم، بكلامها وقربها، تفجِّر عند الغير ذلك الامتلاء ” الروحي ” ألا ينبغي أن يكون لها من هذا الامتلاء فيض لا حدَّ له.
  • هذا الامتلاء، متى نَعِمَت به؟ منذ اللحظة الاولى للحبل بها في بطن أمها؟ نعم، إن كان الامتلاءُ امتلاءً حقاً أي كلياً. نعم، إن كانت مريم مُقَدَّراً لها، منذ الحبل بها، أن تكون أم ابن الله. نعم، إن كانت ستسحق تماماً رأس الحية الجهنمية. نعم، إن صحَّ ما يقوله البروتستانتي زوينغلي نفسه: ” كان يليق بذلك الابن القدوس أن تكون أمه تلك القديسة”.


وعليه، فإنَّ العبارة ” ممتلئة نعمة ” أساس ذو شأن كبير للتحليل اللاهوتي من أجل إثبات هذا الامتياز المريمي، الحبل بها بلا دنس الخطيئة الاصلية. فلنتتلمذ لهذه الأم البريئة من الدنس، نشترك تماماً في التدبير الالهي فينا، لنا، وللآخرين. يقول القديس مكسيميليان كولبي: “لنقترب كلَّ يوم أكثر من البريئة، نقترب أكثر فأكثر من قلب يسوع، ومن الله الآب، ومن الثالوث الأقدس، إذ إنَّه ليس أقرب إلى الله من البريئة. وهكذا نجعل كلّ من هو قريب إلى قلبنا يقترب من البريئة ومن الله”.

                                                                    الاخت فيليب قرما
                                                                                من بنات مريم الكلدانيات