full screen background image

مريم بحسب البابا فرنسيس

206

لإضافة إلى التغييرات الجذرية الضروريّة في عالم العمل، في دعم العائلة وتعزيز دور المرأة في المجتمع، يملك المسيحيون وجميع الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة موردًا إضافيًا: يمكنهم أن ينظروا إلى مريم، والدة الله، هي التي تمثل نموذجا للمرأة والأم بامتياز. وقد حدد البابا فرنسيس خصائصها جيدًا في ثماني سنوات من حبريّته: وبالتالي من خلال إعادة قراءة عظاته التي ألقاها بين عام ٢٠١٤ وعام ٢٠٢١ بمناسبة عيد القدّيسة مريم والدة الله، والذي يُحتفل به في الأول من كانون الثاني (يناير)، تظهر أمامنا “هوية” حقيقية لمريم العذراء يمكن لنساء اليوم أن يستلهمنَ منها. “مصدر الحياة وينبوع الرجاء والفرح الحقيقي”، في الواقع، مريم ليست والدة الإله فحسب، بل هي أيضًا “أمنا”، “التي تسبقنا وتثبتنا باستمرار في الإيمان والدعوة والرسالة – كما قال البابا فرنسيس في عام ٢٠١٤ – وبمثالها في التواضع والاستعداد لمشيئة الله، تساعدنا على ترجمة إيماننا إلى إعلان بهيج وبلا حدود للإنجيل. هكذا ستكون رسالتنا مثمرة، لأنها على مثال أمومة مريم”.

محوريّة أيضًا علاقتها الوثيقة بيسوع، كما هو من الطبيعي أن يكون بين كل ابن وأمه، وبالتالي سلّط البابا فرنسيس الضوء في عام ٢٠١٥ على أنَّ “جسد المسيح – الذي هو مبدأ خلاصنا – قد نُسج في حشا مريم. ويُشار إلى هذا الاتحاد أيضًا بأن مريم، المختارة لتكون أم الفادي، قد شاركت بعمق في الرسالة بأسرها من خلال بقائها بقرب الابن حتى النهاية عند الجلجلة. فمريمُ هي متّحدة هكذا بيسوع لأنها نالت منه معرفة القلب، معرفة الإيمان، تُغذّيها الخبرة الوالدية والعلاقة الحميمة مع ابنها. العذراء القديسة هي امرأة الإيمان التي جعلت مكانًا لله في قلبها ومشاريعها؛ إنها المؤمنة القادرة على فهم حلول “ملء الزمن” في عطيّة الابن التي من خلالها – وباختياره لدرب الوجود البشري المتواضع – دخل شخصيًّا عتبة تاريخ الخلاص. لذلك لا يمكن فهم يسوع بدون أمّه”.

ليس هذا وحسب، لأن التي آمنت بكلمات الملاك تمثل تحقيق “وعد قديم” وبلوغ “ملء الزمان”، وبهذا المعنى شرح البابا فرنسيس في عام ٢٠١٦ تقدّم مريم لنا نفسها ” كإناءٍ مملوء على الدوام بذكرى يسوع، كرسي الحكمة، منه نستقي لكي نحصل على التفسير المترابط لتعليمه. فهي تسمح لنا بأن نفهم معنى الأحداث التي تعنينا شخصيا، وتعني عائلاتنا وبلداننا والعالم بأسره، بفضل قوة الإيمان الذي يحمل نعمة إنجيل المسيح، القادر على الدوام على فتح دروب جديدة.

ولكن هناك جانب واحد، بشكل خاص، يمكن لمريم بفضله أن تكون نقطة مرجعية لجميع الأمهات اليوم، وقد ذكّر به الأب الأقدس في عظته في عام ٢٠١٧ وهو الترياق الأقوى لميولنا الفردانية والأنانية، ولانغلاقنا ولامبالاتنا. وقال إن المجتمع الذي يفتقر إلى الأم، ليس مجتمعا باردا وحسب، وإنما مجتمع فقد القلب، وفقد “طَعْم” العائلة. إن المجتمع الذي يفتقر إلى الأمهات هو مجتمع بلا رأفة ولم يترك مكانا إلا للحسابات الضيقة والأوهام. لأنَّ الأمهات، وحتى في الأوقات الأصعب، يعرفن كيف يشهدن للحنان والتفاني غير المشروط وقوة الرجاء. كذلك تابع البابا مؤكِّدًا أنّه بإمكان أمهات لأبناء في السجن أو ممددين على أسرة المستشفيات أو ضحايا عبودية المخدرات، لم يستسلمن وقررن متابعة نضالهن على الرغم من البرد والحر والمطر والجفاف، أو لأمهات في مخيمات اللاجئين أو في خضم الحروب أن يعلِّمنَنا الكثير لأنهنَّ قادرات على معانقة آلام أبنائهن دون أن تزل لهن رجْل، وهنَّ أمهات يهبن حياتهن بكل ما للكلمة من معنى كي لا يضيع أحد من أبنائهن. حيث توجد الأم توجد الوحدة، ويوجد الانتماء، انتماء البنين. وذكّر الحبر الأعظم في هذا السياق أنَّ مريم هي التي تحمينا من مرض “التيتم الروحي”، هذا التيتم الذي تعيشه النفسُ عندما تشعر أنها تفتقر إلى الأم وإلى حنان الله. هذا التيتم الذي نعيشه عندما ينطفئ فينا شعور الانتماء إلى عائلة، إلى شعب، إلى أرض، وإلى إلهنا. هذا التيتم الذي يجد فسحة له في القلب النَّرجِسِي الذي يعرف أن ينظر لنفسه ولمصالحه فقط وينمو عندما ننسى أن الحياة هي هبة نلناها من الآخرين، ونحن مدعوون لتقاسمها داخل هذا البيت المشترك.

لذلك فإنَّ التعبُّد لمريم العذراء أمِّ الله وإكرامها قال البابا فرنسيس في عظته عام ٢٠١٨ ليسا عبارة عن “لباقة روحية، وإنما هما ضرورة بالنسبة للحياة المسيحية. من خلال النظر الى مريم نحن نتشجع على ترك الكثير من الأعباء التي لا فائدة منها وعلى ايجاد ما هو مهمّ فعلا. إن عطية الأم، وعطية كل أم وامرأة، هي ثمينة جدًا في عيني الكنيسة التي هي أمّ وامرأة. والأم، هي بصمة الله الخالق على البشرية”. في الواقع يشرح الحبر الأعظم في عظته عام ٢٠١٩ إن نظرتها الوالديّة تساعدنا لكي نرى أنفسنا أبناء محبوبين في شعب الله المؤمن ولكي نحب بعضنا البعض ابعد من محدوديّة وتوجهات كلِّ فرد منا. وتذكّرنا أن الحنان الذي يمنع الفتور هو أساسيٌّ للإيمان. عندما يكون هناك مكان لأمِّ الله في الإيمان لا نفقد المحور أبدًا أي الرب، لأنَّ مريم لا تدلُّنا أبدًا إلى نفسها وإنما إلى يسوع والإخوة لأنّها أم”. “نظرة الأم ونظرة الأمهات، أضاف البابا يقول إنَّ العالم الذي ينظر إلى المستقبل بدون نظرة والديّة هو عالم قصير النظر. قد تزيد مكاسبه ولكنه لن يعرف أبدًا كيف يرى في البشر أبناء؛ ستكون له أرباح ولكنّها لن تكون للجميع. سنقيم في البيت عينه ولكن لا كإخوة. لأن العائلة البشريّة تقوم على الأمهات، والعالم الذي يكون فيه الحنان الوالدي مجرّد شعور يمكنه أن يكون غنيًا بالأمور ولكن ليس بالغد”.

بالإضافة إلى النظر جوهريٌّ أيضًا هو عناق مريم فهي “تهتم لحياة كلِّ فرد منا وفي الوقت عينه ترغب في أن تعانق أوضاعنا وأن تقدّمها لله. وفي حياة اليوم المجزّأة، والتي نواجه فيها خطر فقدان الدرب: عناق الأمِّ هو جوهري جدًّا. نرى الكثير من الضياع والوحدة حولنا: العالم مرتبط ببعضه البعض ولكنه يبدو أكثر تفككًا، وبالتالي نحن بحاجة لأن نتَّكل على الأم” التي هي “العلاج للعزلة والتفكّك. إنها أم التعزية التي تعزي وتكون مع من هو وحيد وتمسكه بيده وتدخله بمحبّة إلى الحياة، لأنها تعرف أنّ الكلمات لا تكفي لكي تعزي شخصًا ما وإنما نحن بحاجة للحضور، وهي حاضرة كأم… حتى الله كان بحاجة لأم: فكم بالحري نحتاج إليها نحن! لقد أعطانا إياها يسوع نفسه، وليس في أي لحظة وإنما على الصليب، إذ قال للتلميذ ولكلِّ تلميذ: “هذه أمّك!”. إنَّ العذراء ليست خيارًا بل يجب علينا أن نقبلها في حياتنا. إنها ملكة السلام التي تتغلّب على الشر وتقود على دروب الخير وتُعيد الوحدة بين الأبناء وتربي على الرأفة.

ميزة أخرى لمريم، ذكّر بها البابا في عام ٢٠٢٠ وهي القدرة على “حفظ الأمور في قلبها” أي الاهتمام والعناية بالأمور، “الاهتمام بالحياة”، وهذا موقف خاص بالمرأة قال الأب الأقدس لأنَّ “المرأة تظهر أن معنى الحياة ليس في مواصلة إنتاج الأشياء، وإنما بأخذ الأمور على محمل الجدّ. وبالتالي وحدهم الذين ينظرون بقلوبهم يرون جيدًا، لأنهم يعرفون كيف “يرون داخل الأمور”: يرون الشخص أبعد من أخطائه، والأخ أبعد من هشاشته، والرجاء في الصعوبات، يرون الله في كلّ شيء. ومن هنا جاء نداء الحبر الأعظم لحماية النساء لأنَّ “المرأة هي مصدر حياة: ولكن على الرغم من ذلك “هي تتعرّض باستمرار للإهانة، والاعتداء، والاغتصاب، والحض على الدعارة وعلى قمع الحياة التي تحملها في حشاها. إن أيّ عنف تتعرّض له النساء هو تدنيس لله، الذي ولد من امرأة. من جسد امرأة جاء الخلاص للبشريّة: وبالتالي من خلال الطريقة التي نتعامل بها مع جسد المرأة، نفهم مستوى بشريّتنا”. لذلك، جاء قويًّا تحذير البابا فرنسيس من استغلال جسد المرأة “على المذابح المدنّسة للدعاية، والربح، والإباحية” والذي “يجب تحريره من النزعة الاستهلاكية، ويجب احترامه وتكريمه؛ لأنّه أنبل جسد في العالم، إذ حمل الحبّ الذي خلّصنا وأعطاه الحياة! في يومنا هذا، تهان الأمومة أيضًا، لأن النموّ الوحيد الذي يهمّ هو النموّ الاقتصادي. هناك أمّهات يخاطرن فيقمن برحلات وعرة في محاولة يائسة لتقديم مستقبلٍ أفضل لثمرة أحشائهنّ، ويتم اعتبارهن أرقامًا زائدة من قبل أشخاص ملأوا بطونهم بالأشياء، أمّا قلوبهم ففارغة من الحبّ”.

ختامًا وفي عظته في هذا العام سلّط البابا فرنسيس الضوء على جانب إضافي من العذراء مريم وهو مهمٌّ جدًّا لعصرنا وهو القدرة على حمل الله في الزمن لأنَّ “الوقتُ هو الغنى الذي نملكه جميعاً، لكننا نغار عليه لأننا نريدُه لأنفسنا فقط. يجب أن نطلب نعمةَ إيجاد الوقت لله وللقريب: للأشخاص الوحيدين، والمتألمين والمحتاجين إلى الإصغاء والعناية. لو وجدنا وقتاً نهديه للآخرين خلص الأب الأقدس إلى القول لأُصبنا بالذهول وشعرنا بالسعادة، تماما كالرعاة”.