full screen background image

التعليم الراعوي للبطريرك – الوعي الديني (الإيماني)

243

لتعليم الراعوي للبطريرك – الكاردينال لويس روفائيل ساكو

الوعي الديني (الإيماني)

مؤمنينا الاحبّة في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، في الوطن الام وفي بلدان الانتشار، والقراء ذوي الارادة الطيبة في كل مكان:

هذه سلسلة من المواضيع، رأيت نشرها، تحت عنوان: تعليم البطريرك. فهي ليست من باب المقالات الشخصية التعريفية كمجرد وجهات نظر، وما يجابهها من أفكار مضادة في أي صغيرة وكبيرة، من التي تطلق في منحى الرد من اجل الرد غير المسؤول. هذه صفحات أكتبها للتوجيه والنهل من الينابيع.

موضوع التعليم لهذا الاحد هو: الوعي

الوعي لدى الانسان، إنه القدرة على الإدراك عبر قيام المرء، بالبحث بموضوعية وتحليل المعلومات التي تستقبلها حواسنا ومعالجتها. وبحسب قاموس المنجد وعى الشيء، اي جمعه وتدبَّره وحفِظه. هذه القدرة مهمة جدا للقيام باختيارات صحيحة، والا نظل أسرى غرائزنا. الوعي (التمييز) نكتسبه ونحسِّنه من خلال قراءة مقالات وكتب رصينة، وتحليلها واستهضامها لتغدو ثقافة، وقبولا بقناعة والتزاماً وسلوكاً. لقد باتت القراءة في أيامنا تشتمل على الاستماع الى مختارات من المواد السمعية والبصرية على الشاشة الصغيرة، ولم تعد تتحدد بالورق المطبوع.

على ضوء المبدأ الشائع (قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت)، عندئذٍ يعبر الوعي عن حالة النضوج والمسؤولية، ويعكس تماسك الشخصيّة. الوعي يجعل الشخص واثقاُ من نفسه.

 الايمان مشروعٌ للنموّ الواعي (الادراك) 

منذ البداية أقول: ان السرّ الالهي عظيمٌ، يفوق مداركَنا، وإلا لما عُدّ سرّاً إلهيا، بل مجرد نظرية كغيرها. يبقى سرُّ الله ابداً سراّ لن نستوعبه بالكامل، انما نقدر ان نتعلم شيئاً من معرفته. حسبنا أن نغرف منه، طوال العمر ونتعمق فيه، بروح الحقيقة التي نكتشفها من خلال القلب (روح المحبة) والعين (العقل – البصيرة) كما يذكر مار افرام. إذاً الوعي يُحفز على التفكير.

 هنا أشير الى الايمان الذي هو نعمة من الله، نكتشفه بطريقة شخصية، هكذا فالايمان يختلف عن الأيديولوجية او المنطق البشري، أو عن حشو معلومات من الموروث التقليدي. الوعي هو اني أفهم ما اؤمن به ولماذا اؤمن. وبصراحة لأني أحب واثق بمن اؤمن به. هنا اؤكد على محدودية لغتنا البشرية التي يُشبّهها الرسول بولس بــِ” كنز نحمله في اناء من الخزف (2قورنثية 4/7)، أي في ضعفنا البشري. لنتأمل في تجلّي يسوع على الجبل (مرقس 9/2-7) يقال انه جبل طابور، انه عربونُ الجمال غير المرتبط بالشكل الخارجي! ولهذا انبهر التلاميذ الثلاثة وأرادوا البقاء، لكن هيهات! .. أجل مع المسيح اصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد.

لماذا الوعي مهم؟

لن نتقدم وننمو ونتغير من دون الوعي. الايمان الواعي يبني فسحة رحبة من الرجاء، ويُقيم علاقة حميمية مع الله، وعلاقة سليمة مع  الاخرين، ومنفتحة على الحوار حول من نؤمن به ونحبّه( الشخص). التغيير يتم من خلال الانفتاح والنضوج وتوسيع مجالات الأنا والنمو.

وهنا اسوق مثالا على عدم الوعي والمعرفة. انتقدَ البعض السينودس الكلداني الاخير عندما اختار اسقفاً معاوناً لألقوش مع حق “الخلافة”، فقالوا بما يحاكي الجهل: هذا تعبير اسلامي، ذلك ان الخلافة تعبير قانوني في اللغة العربية، يؤكد حق المعاون أن يأتي بعدي… فلا يعني زحف عبارات في التداول لدى ديانة ما! ألا نستخدم هذه العبارات في ما تعنيه أساساً. وأبسط مثال على ذلك، أن سيادة المطران رمزي كرمو، كان، في منتصف التسعينيات (أي قبل داعش بعقود) قد انتخب اسقفاً معاوناً في أبرشية طهران للكلدان والآشوريين الكاثوليك، مع حق الخلافة، التي حصلت فيما بعد، ولم يكن ثمة من يستغرب!

الكنيسة والتعليم والوعي

إن الكنيسة في العراق، وانطلِق من خبرة كنيستنا الكلدانية الكاثوليكية- الجامعة، على مر الزمن، وبسبب ظروف ذاتية، لم يتوفر لها للأسف، ما توفر لكنائس ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، بتقديم تعليم مسيحي واضح ومفهوم لتثقيف الناس، بل مضت نمطيا على صبّ اهتمامها على تلقين معلومات من الموروث التقليدي، وكأنها عقائد مُسَلَّم بها، وكذا الامر في النظر إلى ممارسة طقوس غير مفهومة لانها بلغة لا يتكلمها الناس ومصطلحات قديمة. واني كطفل وشاب يافع عشت هذه الخبرة. أما الكنائس الكاثوليكية الاخرى، فقد قامت بالاصلاحات  والتجديدات التي اطلقها المجمع الفاتيكاني الثاني.  اليوم فقد تغير الوضع، ونشكر الله ان معظم كهنتنا مثقفون وواعون وملتزمون وينشِّئون الاطفال والشباب والبالغين بمبادئ الايمان بلغة مفهومة واسلوب مشوّق، وليس عن طريق التلقين (المحفوظات).

تؤكد الرسالة الاولى الى تيموثاوس (فصل 3و4) على دور الاسقف (والقسيس) ان يكون قادرأ على التعليم، اي بلغة مفهومة، والاهتمام بالعدالة امام الظلم، والاعتناء بالفقراء، وحسن الضيافة، ورباطة الجأش، والحكمة… والا كيف يواجه البطريرك والاسقف في ايامنا، الكلّ وكلّ شيء؟ مثل التحديات السياسية والامنية والصحية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية. إن الكنيسة بحاجة الى اشخاص شجعان لهم فكر ورؤية وبرامج، يواجهون الاسئلة التي يطرحها العلمانيون المؤمنون الذين يؤلفون الغالبية في الكنيسة.

دور الكنيسة الراعوي

من الاحتياجات أيضاً إيجاد راعوية مؤوَّنة ومخصصة pastoral ad hoc. إذ كيف يتمكن المسيحي من مواجهة التحديات السياسية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية خصوصا في عالم تحول الى” الرقمية”؟ ينبغي معرفة أسباب هذه التحديات وكيفية معالجتها.

من منبر التعليم البطريركي هذا أقول: الكنيسة مدعوة الى إعادة النظر بالصيغ القديمة وسياقاتها الزمنية والثقافية لمساعدة المؤمنين على التفكير والتحليل، وليس الإجابة الجاهزة السطحية والسهلة. المصطلحات مهمة. وكذلك التنشئة ومناهج التعليم. نعم يمكن استلهام الموروث التقليدي، لكن  بعقلية جديدة ولغة جديدة وأدوات جديدة.

ينبغي ان تساعد الكنيسة المسيحيين لكي يغدو إيمانهم اختيارا شخصيا، وليس بفعل الوراثة، أو متقلبا باضطراب بين الانتماء بشهادة العماد وبين خيار العمل القومي والسياسي الموجّه. فهذا الاختيار الشخصي يجعل الكنيسة مع شعبها المؤمن متناغمة كعائلة واحدة من الاخوة والاخوات في وحدة الإيمان.

 من ثمَّ الحاجة الى ليتورجيا بالسورث المحبوك برقي وفُرادة، واخرى بالعربية، خصوصا واننا نعيش في مجتمع غالبيته من غير المسيحيين.

 توضيح بعض المصطلحات

1- الإيمان fides: الإيمان فضيلة لاهوتية فائقة الطبيعة، أي بدفع من الله وبنعمته، يؤمن الإنسان، وليس ببراهين فلسفية. إنه علاقة وجدانية بمن دعانا لنؤمن به. وتشمل هذه العلاقة كل أبعاد كياننا. انه صلة فريدة، إنْ مع الله الذي يولدنا من جديد وإن مع الإخوة (يوحنا 13/34، 17/16). وقد حدده المجمع التريدنتيني بهذه العبارات: الإيمان هو أكثر من مجرد ثقة، هو الفعل الذي به نلتحق بالله، بما أوحى به ووعد به. وهذا الفعل مصدره نعمة الله فينا، وانه للإنسان بدء الخلاص وأساس كل تبرير. لكن “الإيمان بدون أعمال ميت” (رسالة يعقوب 2/26)، اي بدون رجاء ومحبة. 

لكوني استخدم عبارة ذوي “الارادة الصالحة” ادعو إلى ان يكون إيماننا مسكونا باحترام ثقافة الآخر المختلف، معوّلين على صدقه ونزاهته، من أي ديانة أو ثقافة إيمانية أو غير إيمانية كان، وحسبنا أن نشهد لإيماننا بعمق وإشراقة، بعيدا عن التعصب الأعمى والانتقاص المشبوه من الآخر.

2- اللاهوت theologia: اللاهوت علم من العلوم الدينية، يعني الكلام عن الله، أي كيف نتكلم عن الله بلغة بشرية محدودة. لذا اللاهوت بطبيعته هو في خدمة الإيمان. اللاهوت لا يعطينا الإيمان بل يساعدنا على بلورته، وتعميقه، والتعبير عنه. انه عامل مساعد ولا يمكن الاستغناء عنه. ان اللاهوت لا يمكن ان يكون إلا معاصرا، فهو علم متحرك مرتبط بزمان الناس ومكانهم وثقافتهم، ليقدر ان يخاطبهم. وهناك لاهوت الكتاب المقدس، ولاهوت الآباء، واللاهوت المدرسي واللاهوت الأساسي واللاهوت المعاصر… الخ. وهنا دور المعنيين، اكليروساً وعلمانيين مؤمنين متخصصين، في نقل البشرى.

3- العقيدة dogma: العقيدة صياغة لاهوتية لحقيقة إيمانية تقوم الكنيسة الكاثوليكية بتحديدها وإعلانها رسمياً بصورة واضحة، وذلك من خلال مرسوم بابوي أو مجمعي. ويستند هذا التحديد إلى ينبوع الوحي الإلهي (الكتاب والتقليد). وهي مُلْزِمة. الغاية من تحديد العقيدة حماية الإيمان. هناك حقائق عامة وأساسية في المسيحية، يؤمن بها كل مسيحي جَهراً، ولكن هناك عقائد خاصة بكل كنيسة، تُظهر وحدتها وخصوصيتها. هذا ما يقرُّه الكرسي الرسولي في مواقفه الرسمية، وليس، كما تدّعيه تصريحات استعراضية غير مسؤولة، لبعض المنتقدين والملمّحين التقسيميين، ليس الإقرار الرسولي في تغيير اسم جغرافي أو اركيولوجي يخص تسمية هذه البطريركية أو تلك. وهذا ما يدعونا إلى النقطة الرابعة في باب المصطلحات لشرح الكلمة التالية.

4- الشيطان diabolos، أي من يُقسِم.