full screen background image

من على قمة جبل زاوه صُنع القرار وبدأ مشوار الشهادة

346

كاتب القصة: الاب صباح كموره

قصة حقيقة اسردها ولاول مرة حدثت في سفرة كهنة ابرشية الموصل الكلدانية يوم الاثنين ٢٨ من شهر أيّار ٢٠٠٧. حينها قرر راعي ابرشية الموصل الكلدانية مع كهنته للقيام بسفرة الى شمال العراق. وهذا التقليد كان يقام مرّتين في السنة، كان المشاركون في هذا اللقاء:
( الشهيد المطران فرج رحّو، المرحوم الخوري جبرائيل باكوس، المرحوم الخوري حنا ججيكا، الاب لوسيان جميل، المرحوم الاب يوحنا عيسى، الاب صباح كموره، الاب جليل منصور، الشهيد الاب رغيد كنّي..). انطلقنا صباحاً من مدينة الموصل متوجّهين الى مصائف دهوك الخلابة. لكن وبسبب موسم الاصطياف وزحمة الوافدين فضّلنا المكوث في منطقةٍ على مقربةٍ من مدخل مدينة دهوك، وكان المكان جميلاً يحيطه جبال وسهول وهضاب. وجاء اختيارنا هذا بسبب هدوء المنطقة أولاً، وثانياً خلوّها من المصطافين… كان الجوّ رائعاً وتجمّل جدّاً بشمس الشمال البرّاقة، ونسمة الريح العليلة ومنظر الجبال الشاهقة وواحات خضراء زاهية. التقت هذه المواصفات لتكيّف لقاءنا منتجةً يوماً مميزاً. بدأنا بترتيب المكان وتحضير المستلزمات، وتقاسمنا احاديث مختلفة تناغمت معها تراتيل مختلفة بحناجر كهنتنا. ولما حان وقت الغداء شمّر الشباب عن سواعدهم فجهّزوا طعاماً لذيذاً ومنوعّاً. صلّينا ليبارك الرب نهارنا، لقاءنا وطعامنا… وبعد ان تزوّدت أجسادنا بطاقةٍ من دسمِ المشاوي اللذيذة، جاءت فترة الاسترخاء. فقسم بقي في مكانه ليستريح قليلاً، والقسم الاخر من الكهنة قرّر ان يتسلّق الجبل الذي احاط مكاننا وكان معنا في الترحال الاب رغيد. ترجّلنا لمسافة ما ولكن توقفنا لصعوبة التسلّق فقررنا العودة الى حيث كُنّا. ولكن الاب رغيد فضّل بان يكمّل مشوار التسلّق. وهكذا ذهب بعيداً عنا واختفى عن انظارنا. ورجعنا الى حيث يتواجد بقيّة الكهنة. وحالما وصلنا، بدأ المطران الشهيد يتساءل: ” تُرى! ابونا رغيد ليس معكم ؟” اجاب أحد الكهنة: اكيد سيدنا لقد قرر التواصل، فانفصل عنا والتزم طريقاً آخر وغاب عن نظرنا. وبنبرة اليمة قال:” لماذا تركتموه لوحده؟”…
وبدأ التوتّر يظهر على محيا المطران، وكأن قلبه كان يعلمه بشيءٍ ما. واصبحنا جميعاً في حالة قلق منتظرين سلامة عودته. وهكذا وبعد ثلاثة ساعات عاد الينا ابونا رغيد وكان تَعِباً، إلا انه كان متماسكاً ومعنوياته عالية. سأله المطران فرج: لقد اقلقتنا عزيزي ابونا؟ اجاب للحال:” لقد قرّرت التسلق لوحدي لابلغ قمّة الجبل. سأله المطران ثانية: ألم يكن من الافضل لو كان بصحبتك احد الكهنة؟ أجاب ابونا رغيد، لا سيدنا اردت ان اكون لوحدي لالتقي مع الهي. جميعنا تعجّب من ذاك الامر. ثم اردف الاب الشهيد قائلاً:” لانه كان لديّ أسئلة اردت ان اعترف بها امام الله، منها ما يتعلّق بمسيرتي الكهنوتية واخرى بمستقبلي والتحدّيات التي تواجهني، لذلك اردت ان اختلي لساعات مع نفسي في حضرة ربّي من أعلى قمّة الجبل لِكَيْ اتخذ قراري الحاسم… وعند المساء رتّبنا المكان ورزمنا الامتعة وعدنا الى ديارنا والحيرة جالت في مخيلتي لتك القصة!… وكأنه من أعلى قمّة الجبل قد عاهد الاب الشهيد الله مقرراً الثبات وتحدّي الصعوبات. فكما نزل يسوع من جبل طابور بعد حادثة التجلي ليسير الى اورشليم ويُصلب هناك. هكذا فعلها خادم الله ( الاب رغيد )، اذ نزل من قمة الجبل بعد ان تجهّز بطاقةٍ من الله ليذهب متحدّياً قرار غلق الكنيسة لاقامة قداسٍ احتفاليٍ لعيد حلول الروح القدس والذي صادف الثالث من حزيران ٢٠٠٧، أي بعد سبعة أيام من السفرة. ونتيجة إصراره قتله الاشرار الغادرون رمياً بالرصاص مع رفاقه الشمامسة الشهداء الثلاثة ( وحيد حنا، بسمان يوسف، غسان عصام )، وجعلوهم ينزفون دمائهم في الشارع ومهددين من يدنو ويخلّصهم، وبذلك ارتوت تربة كنيسة الروح القدس، وارض نينوى بدمائهم الطاهرة التي صارت وستبقى بذار الحياة. وكما يقول سفر المزامير ( وذِكرُ البارِّ يَكونُ لِلأبد )( ١١٢: ٦ ). فهؤلاء الصديقين ومن سبقهم في مسيرتنا الايمانية سيكونون مشاعل نيّرة في دروب الحياة، يستمدون طاقة مشاعلهم من شعاع نور العالم يسوع المسيح ذاك النور من نورٍ ابدي. وسيبقون في ذاكرتنا وكقدوة لنا. فحقّاً
“ما من حبّ أعظم من هذا، أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه”
(يوحنا ١٥ : ١٣). ألا اذكرونا يا خدّام الرب حينما تلتقون وجهاً لوجه مع الهنا القدوس في دار نعيمه الابدي.