ل من كانون الثاني / يناير 2021
ثقافة الرعاية: مسار للسلام
1. في مطلع العام الجديد، أودّ أن أقدّم أحرّ التحيّات إلى رؤساء الدول والحكومات، ورؤساء المنظّمات الدوليّة، والقادة الروحيّين والمؤمنين من مختلف الأديان، والنساء والرجال ذوي النوايا الحسنة. أوجّه لكم جميعًا أمنياتي الحارّة بأن يشهد هذا العام تقدّم البشرية في درب الأخوّة والعدالة والسلام بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول.
لقد تَمَيَّز عام 2020 بالأزمة الصحية الكبيرة التي خلقها الكوفيد-19، والتي تحوّلت إلى ظاهرة عالميّة متعدّدة القطاعات، وأدّت إلى تفاقم الأزمات المترابطة فيما بينها، مثل أزمات المناخ والغذاء، والأزمات الاقتصاديّة والمتعلّقة بالهجرة، وتسبّبت في معاناة شاقّة وضيق شديد. أذكر أوّلًا الذين فقدوا أحد أفراد أسرتهم أو شخصًا عزيزًا، وكذلك الذين فقدوا وظائفهم. وأخصّ بالذكر أيضًا الأطبّاء والممرّضات والصيادلة والعلماء والمتطوّعين والكهنة المرافقين وموظّفي المستشفيات والمراكز الصحيّة الذين بذلوا قصارى جهدهم وما زالوا يقومون بجهود وتضحيات كبيرة إلى حدّ موتِ بعضهم وهم يسعون للبقاء بقرب المرضى من أجل التخفيف من معاناتهم أو إنقاذ حياتهم. وفيما أشيد بهؤلاء الأشخاص، أجدّد ندائي إلى المسؤولين السياسيّين والقطاع الخاصّ من أجل اتّخاذ التدابير المناسبة لضمان حصول الجميع على اللقاحات ضدّ الكوفيد-19 والتقنيّات الأساسيّة اللازمة لمساعدة المرضى وجميع الأشخاص الأكثر احتياجًا والأكثر ضعفًا[1].
يؤلمنا أن نرى، إلى جانب العديد من أعمال المحبّة والتضامن، الزخمَ الجديد التي تكتسبه أشكالٌ مختلفة من القوميّة والتمييز العنصريّ والتعصّب وحتى الحروب والصراعات التي تزرع الموت والدمار.
تُعَلِّمنا هذه الأحداث وغيرها أيضًا من الأحداث التي طبعت مسيرة البشريّة في العام الماضي، أهمّية الاعتناء ببعضنا البعض ورعاية الخلق، من أجل بناء مجتمع يقوم على علاقات أخويّة. لذلك اخترتُ أن يكون موضوع هذه الرسالة “ثقافة الرعاية: مسار للسلام”. ثقافة الرعاية من أجل القضاء على ثقافة اللامبالاة والاستبعاد والمواجهة التي غالبًا ما تسود اليوم.
2. الله الخالق هو أصل دعوة الإنسان إلى الرعاية
نَجِدُ في العديد من التقاليد الدينية روايات تدور حول أصل الإنسان وعلاقته بالخالق والطبيعة وبالبشر أمثاله. أمّا في الكتاب المقدّس، فيكشف سفرُ التكوين منذ البدء، عن أهمّية رعاية مشروع الله للبشرية أو حراسته، مسلّطًا الضوء على العلاقة بين الإنسان (آدم) والأرض (أداما) وبين الإخوة. في الرواية الكتابية عن الخلق، يضعُ الله الجنّةَ “المغروسة في عدن” (را. تك 2، 8) بين يديّ آدم ويطلب منه أن “يَفلَحَها ويَحرُسَها” (را. تك 2، 15). وهذا يعني، من ناحية، أن يجعل الأرض مثمرة، ومن ناحية أخرى، أن يحميها ويجعلها تحتفظ بقدرتها على إعالة الحياة[2]. ويصف الفعلان “يفلح” و “يحرس” علاقةَ آدم ببيته “الحديقة” ويشيران أيضًا إلى الثقة التي يضعها الله فيه إذ جعله سيّدًا وحارسًا للخليقة كلّها.
لقد خلّفت ولادةُ قايين وهابيل قّصةَ علاقةٍ بين إخوة، فسّرها قايين -سلبًا- من حيث الوصاية أو الحراسة. وبعد أن قتل أخيه هابيل، أجاب قايينُ على سؤال اللهَ: “أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟” (تك 4، 9)[3]. نعم، بالطبع! قايين هو “حارس” لأخيه. “في هذه الروايات القديمة، والغنيّة برمزيّة عميقة، كانت ماثلة هذه القناعة الراهنة اليوم: بأن كلّ شيء مترابط، وأنّ العناية الأصيلة بحياتنا ذاتها وبعلاقتنا مع الطبيعة هي جزء لا يتجزّأ من الأخوّة والعدالة والإخلاص تجاه الآخرين”[4].
3. الله الخالق، مثال الرعاية
يقدّم الكتابُ المقدّس اللهَ، فضلًا عن كونه الخالق، على أنه الذي يرعى خلائقه، ولا سيما آدم وحوّاء وأبناءهما. حتى قايين نفسه، على الرغم من حلول اللعنة عليه بسبب الجريمة التي ارتكبها، نال كعطيّة من الخالق علامة حماية، حتى تُحفَظ حياته (را. تك 4، 15). وفيما تؤكِّد هذه الحقيقة كرامة الإنسان غير القابلة للانتهاك –الإنسان الذي خُلِقَ على صورة الله ومثاله-، تُظهِر أيضًا خطّة الله من أجل الحفاظ على انسجام الخليقة، لأن “السلام والعنف لا يمكن أن يتساكنا”[5].
إن رعاية الخليقة بالتحديد هي أساس إقامة سَبْت الراحة الذي يهدف، بالإضافة إلى تنظيم العبادة الإلهيّة، إلى إعادة تأسيس النظام الاجتماعي والاهتمام بالفقراء (تك 1، 1- 3؛ أح 25، 4). أمّا الاحتفال باليوبيل، أي السنة السبتية التي تتكرّر كلّ سبع سنوات، فكان يمنح هدنةً للأرض والعبيد والمَدينين. وخلال سنة النعمة هذه، تُقَدَّم الرعاية للأكثر ضعفًا، فينالون منظورًا جديدًا للحياة، حتى لا يكون هناك محتاج لدى الشعب (را. تث 15، 4).
تجدر الإشارة أيضًا إلى التقليد النبوي، الذي تتجلّى فيه ذروة الفهم الكتابي للعدالة من خلال الطريقة التي يتعامل بها المجتمع داخليًّا مع الأكثر ضعفًا. وهذا هو السبب الذي دفع عاموس (2، 6- 8؛ 8) وأشعيا (58)، على وجه الخصوص، إلى رفع صوتهما باستمرار لصالح العدالة تجاه الفقراء الذين، بسبب ضعفهم وافتقارهم للسلطة، وحده الله يسمعهم ويعتني بهم (را. مز 34، 7؛ 113، 7- 8).
4. الرعاية في خدمة يسوع
إن حياة يسوع وخدمته تجسّدان ذروة تجلّي محبّة الآب للبشريّة (يو 3، 16). فقد ظَهَر يسوع في مجمع الناصرة، على أنّه هو الذي كرّسه الربّ وأرسله “ليُبَشِّرَ الفُقَراء ويُعلِنَ لِلمَأسورينَ تَخلِيَةَ سَبيلِهم ولِلعُميانِ عَودَةَ البصَرِ إِلَيهِم ويُفَرِّجَ عنِ الـمَظلومين” (را. لو 4، 18). وتشكّل هذه الأعمال المسيحانية، الخاصّة بسنين اليوبيل، أفصحَ شهادةٍ عن الرسالة التي أوكلها إليه الآب. فقد تقرّب المسيحُ بشفقته من المرضى بالجسد والروح وشفاهم؛ غفر للخطأة ومنحهم حياة جديدة. إن يسوع هو الراعي الصالح الذي يعتني بالخراف (را. يو 10، 11- 18؛ حز 34، 1- 31)؛ إنه السامريّ الصالح الذي ينحني على الجريح ويشفي جراحه ويعتني به (لو 10، 30- 37).
وفي ذروة رسالته، ختم يسوع عنايته بنا باذلًا ذاته على الصليب فحرّرنا من عبودية الخطيئة والموت. وبهذه الطريقة، عبر عطيّة حياته وتضحيته، فتح لنا طريق المحبّة وهو يقول لكلّ منّا: “اتبعني. واعمَلْ أَنتَ أَيضاً مِثْلَ ذلك” (را. لو 10، 37).
5. ثقافة الرعاية في حياة أتباع يسوع
إن أعمال الرحمة الروحيّة والجسديّة هي نواة محبّة الكنيسة الأولى وخدمتها. كان مسيحيّو الجيل الأوّل يعيشون المشاركةَ فيما بينهم حتى لا يكون فيهم محتاجًا (را. رسل 4، 34- 35) وكانوا يسعون جاهدين لكي تكون الجماعة بيتًا مضيافًا، مفتوحًا لأيّة حالة إنسانية، ومستعدًّا لتولّي مسؤوليّة أكثر الأعضاء ضعفًا. وهكذا أصبح من المعتاد القيام بتقديمات طوعيّة لإطعام الفقراء ودفن الموتى وإعالة الأيتام والمسّنين وضحايا الكوارث، أو الغرق على سبيل المثال. وعندما فَقَدَ كَرَمُ المسيحيّين اندفاعَه، في فترات لاحقة، أصرّ بعض آباء الكنيسة على أن الملكيّة في مفهوم الله هي للخير العام. كان القدّيس أمبروزيوس يقول إن “الطبيعة قد مَنَحَت كلّ الأشياء للبشر من أجل استخدام مشترك […] لذا، فقد أعطت الطبيعة الحقّ المشترك للجميع، لكن الجشع جعله حقًا للبعض”[6]. بعد أن تخطّت الكنيسة اضطهادات القرون الأولى، استفادت من حرّيتها من أجل إلهام المجتمع وثقافته. “كانت احتياجات ذلك الزمن تتطلّب التزامات جديدة في خدمة المحبّة المسيحيّة. تنقل السجلّات التاريخيّة أمثلة لا تُحصى من أعمال الرحمة. ومن هذه الجهود المتضافرة، نشأ العديد من المؤسّسات لتلبية جميع الاحتياجات الإنسانية: المستشفيات، ومساكن الفقراء، ودور الأيتام، ودور الأطفال، وأماكن لاستضافة عابري السبيل، وما إلى ذلك”[7].
6. مبادئ العقيدة الاجتماعية للكنيسة أساسًا لثقافة الرعاية
أمّا الخدمة الشمّاسية في الكنيسة الأولى، بعد ان اغتنت بتأمّلات الآباء، وأحيتها على مرّ القرون المحبّة الدؤوبة للعديد من شهود الإيمان البارزين، قد أصبحت القلبَ النابض لعقيدة الكنيسة الاجتماعية، وتشكّل لذوي النوايا الحسنة تراثًا ثمينًا من المبادئ والمعايير والمؤشّرات التي يمكن أن نستمدّ منها “قواعد” الرعاية: تعزيز كرامة كلّ إنسان، والتضامن مع الفقراء والعُزّل، والاهتمام بالخير العام، والحفاظ على الخليقة.
* الرعاية بمثابة تعزيز لكرامة الشخص وحقوقه
“إن مفهوم الشخص، الذي ولد في المسيحيّة ونضج فيها، يساعد على تحقيق تنمية بشريّة كاملة. ولأن كلمة شخص تعني دائمًا علاقة، وليس فرديّة، فهي تؤكّد الشمولية وليس الإقصاء، والكرامة الفريدة وغير القابلة للانتهاك وليس الاستغلال”[8]. كلّ شخص بشريّ هو غاية في حدّ ذاته، وليس أبدًا مجرّد أداة تُقَدَّر وفقًا لفائدتها، وقد خُلِقَ لكي يعيش مع الآخرين في الأسرة، وفي الجماعة، وفي المجتمع، حيث يتساوى جميع الأعضاء في الكرامة. ومن هذه الكرامة تشتقّ حقوق الإنسان، وكذلك الواجبات التي تُذكِّرُ، على سبيل المثال، بمسؤوليّة قبول ومساعدة الفقراء والمرضى والمُهمَّشين وكلّ “قريب، مجاور أو بعيد في الزمان والمكان”[9].
* رعاية الخير العام
إن كلّ جانب من جوانب الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة يكتمل عندما يوضع في خدمة الخير العام، أي في خدمة “مجموعة أوضاع وظروف اجتماعية تسمحُ للجماعات ولكلّ فرد من أفرادها بالوصول إلى الكمال بطريقةٍ أكثر شمولًا وسهولة”[10]. لذلك، يجب أن تنظر خططُنا وجهودُنا دائمًا في ما تتركه من أثر على الأسرة البشرية بأكملها، وأن تزن عواقبها على اللحظة الحاليّة والأجيال القادمة. وما يُظهِر مدى صحّة وحداثة هذا الأمر إنما هي جائحة الكوفيد-19، التي أدركنا إزاءها “أننا كلّنا على متن القارب نفسه، جميعنا ضعفاء ومرتبكون، ولكن في الوقت عينه مهمّون وضروريّون، ومدعوّون جميعًا إلى البقاء معًا”[11]، لأن “لا أحد يخلّص نفسه بنفسه”[12] ولا يمكن لدولة قومية منعزلة أن تضمن الخير العام لشعبها[13].
* الرعاية من خلال التضامن
إن التضامن يعبّر بشكل ملموس عن محبّتنا للآخر، التي ليست شعورًا بتعاطف مبهم، بل “عزمًا ثابتًا ومثابرًا على العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الكلّ وكلّ فردٍ لأننا جميعنا مسؤولون حقًّا عن الجميع”[14]. يساعدنا التضامن على رؤية الآخر –الشخص، أو بمعنى واسع، الشعب أو الأمّة- ليس بمثابة إحصاء، أو وسيلة نستغلّها ثم نستبعدها عندما لم نعد بحاجة إليها، إنما بمثابة قريب لنا، ورفيق للدرب، مدعوّ للمشاركة، مثلنا، في وليمة الحياة التي يدعو الله إليها الجميعَ بالتساوي.
* رعاية وحماية الخلق
تعترف الرسالة العامّة كن مسبّحًا اعترافًا تامًّا بالترابط الموجود بين المخلوقات كلّها وتسلّط الضوء على الحاجة إلى الاصغاء لصرخة المحتاج والخليقة معًا. ومن هذا الإصغاء اليقظ والمستمرّ تستطيع أن تنشأ رعايةٌ فعّالة للأرض، التي هي بيتنا المشترك، وللفقراء. وفي هذا الصدد، أودّ أن أكرّر أنه “لا يمكن لشعورٍ بوحدة حميمة مع بقيّة مخلوقاتِ الطبيعة أن يكونَ أصيلًا، إن لم يكن القلب، في الوقت نفسه، مفعمًا بالعطفِ والشفقةِ والاهتمامِ بالبشر”[15]. “السلام والعدل والحفاظ على الخليقة هي ثلاث مواضيع مترابطة تمامًا، ولا يمكن فصلها من أجل إيجاد حلّ لها بشكل فرديّ، وإلّا فقد نقع مجدّدًا في الاختزالية”[16].
7. بوصلة من أجل مسار مشترك
في هذا الزمن الذي تهيمن فيه ثقافة الإقصاء، وإزاء تفاقم عدم المساواة داخل الدول وفيما بينها[17]، أودّ أن أدعو المسؤولين عن المنظّمات الدوليّة والحكومات، والعالم الاقتصادي والعلمي، وعالم التواصل الاجتماعي والمؤسّسات التعليميّة، إلى تبنّي “بوصلة” المبادئ التي ذكرناها أعلاه، حتى يطبعوا مسارًا مشتركًا لعمليّة العولمة، “مسارًا إنسانيًّا حقًّا”[18]. وهذا، في الواقع، من شأنه أن يسمح بتقدير قيمة وكرامة كلّ شخص، وبالعمل معًا والتضامن من أجل الخير العام، فنقدّم بعض الراحة للذين يعانون من الفقر والمرض والعبوديّة والتمييز والصراعات. من خلال هذه البوصلة، أشجّع الجميع على أن يصبحوا أنبياء وشهودًا لثقافة الرعاية، من أجل التعويض عن الكثير من التفاوتات الاجتماعية. ولن يكون هذا ممكنًا إلّا بمنح المرأة دورًا رئيسيًّا قويّا وواسع النطاق، في الأسرة وفي كلّ المجالات الاجتماعية والسياسيّة والمؤسّسية.
إن بوصلة المبادئ الاجتماعيّة، الضرورية لتعزيز ثقافة الرعاية، تشير أيضًا إلى العلاقات بين الأمم، التي ينبغي أن تستلهم من الأخوّة والاحترام المتبادل والتضامن ومراعاة القانون الدولي. وفي هذا الصدد، يجب إعادة تأكيد حماية وتعزيز حقوق الإنسان الأساسيّة، وهي حقوق عالميّة وغير قابلة للتصرّف أو للتجزئة[19].
كما يجب التذكير بواجب احترام القانون الإنساني، ولا سيّما في هذه المرحلة التي تشهد باستمرار تتالي النزاعات والحروب. للأسف، إن العديد من المناطق والمجتمعات لم تعد تتذكّر الزمن الذي عاشت فيه بسلام وأمن. وأصبحت العديد من المدن بؤرًا لانعدام الأمن: يكافح سكّانها للحفاظ على نمطهم الاعتيادي، لأنهم يتعرّضون لهجمات وللقصف العشوائي بالمتفجّرات والمدفعيّة والأسلحة الصغيرة. وليس باستطاعة الأطفال أن يدرسوا، ولا الرجال والنساء أن يعملوا لإعالة الأسرة. والمجاعة تنمو في أماكن لم تعرفها قطّ سابقًا. ويضطرّ الأشخاص إلى الفرار تاركين ورائهم ليس فقط منازلهم ولكن أيضًا تاريخ عائلاتهم وجذورهم الثقافية.
أسباب الصراع كثيرة، لكن النتيجة واحدة على الدوام: الدمار والأزمة الإنسانية. يجب أن نتوقّف ونسأل أنفسنا: ما الذي أدّى إلى تطبيع الصراع في العالم؟ وقبل كلّ شيء، كيف نقود قلوبنا إلى الارتداد ونغيّر عقليّتنا لكي نسعى حقًا إلى السلام بالتضامن والأخوّة؟
كم من الموارد تُهدَر من أجل الأسلحة، ولا سيما الأسلحة النووية[20]، موارد يمكن استخدامها من أجل أولويّات أكثر أهمّية تهدف إلى ضمان سلامة الناس، مثل تعزيز السلام والتنمية البشريّة المتكاملة، ومكافحة الفقر، وضمان الاحتياجات الصحيّة. وقد سلّطت الضوء على هذا الأمر أيضًا المشكلات العالميّة مثل جائحة الكوفيد-19 الحاليّة وتغيّر المناخ. كم يتطلّب شجاعة أن نقرّر “إنشاء صندوق عالميّ، بالأموال المستخدمة في مجال الأسلحة والنفقات العسكريّة الأخرى، يهدف إلى القضاء نهائيًّا على الجوع، والمساهمة في تنمية أفقر البلدان![21]“.
8. من أجل التربية على ثقافة الرعاية
إن تعزيز ثقافة الرعاية يتطلّب عملية تربوية، وتشكّل بوصلة المبادئ الاجتماعية، لهذا الغرض، أداةً موثوقة لمختلف السياقات المترابطة. أودّ أن أعطي بعض الأمثلة في هذا الصدد.
· تنشأ التربية على الرعاية في الأسرة، التي هي النواة الطبيعية والأساسيّة للمجتمع، حيث يتعلّم المرء فنّ العلاقات والاحترام المتبادل. ولكن الأسرة تحتاج إلى الظروف التي تمكّنها من القيام بهذه المهمّة الحيوية التي لا غنى عنها.
· أمّا العناصر الأخرى التي، بتضامن مع الأسرة، تحمل مسؤولية التربية هي المدارس والجامعات، وكذلك، في بعض النواحي، التواصل الاجتماعي[22]. إنها مدعوّة إلى نقل نظام من القيم يقوم على الاعتراف بكرامة كلّ شخص، وكلّ جماعة لغويّة وعرقيّة ودينيّة، وكلّ شعب، والاعتراف بالحقوق الأساسيّة المستمدّة منه. التربية هي أحد أركان مجتمع أكثر عدلًا وتضامنًا.
· يمكن للديانات عامّة، والقادة الدينيّين خاصّة، أن يلعبوا دورًا أساسيًّا فينقلوا إلى المؤمنين والمجتمع قيم التضامن، واحترام الاختلاف، والترحيب والرعاية بأكثر الإخوة ضعفًا. وفي هذا الصدد، أذكر الكلمات التي وجّهها البابا بولس السادس إلى البرلمان الأوغندي في عام 1969: “لا تخافوا من الكنيسة؛ فهي تكرّمكم وتقوم بتربية مواطنين صادقين ومخلصين، ولا تثير الخصومة والانقسامات بل تسعى إلى تعزيز الحرّية السليمة والعدالة الاجتماعيّة والسلام؛ وإذا كان لديها أولويّات، فهي تعطي الأولويّة للفقراء، ولتربية الصغار والشعب، ولرعاية الذين يعانون والمُهمَلين”[23].
· أجدّد تشجيعي لجميع الذين يعملون في خدمة السكّان، ضمن المنظّمات الدوليّة والحكوميّة وغير الحكوميّة ذات رسالة تربويّة، ولكلّ من يعمل في مجال التربية والبحث، بمختلف السبل، حتى يتمكّنوا من بلوغ هدف تربية “أكثر انفتاحًا وشموليّة، قادرة على الاستماع الصبور، والحوار البنّاء والتفاهم المتبادل”[24]. أتمنّى أن تلقى هذه الدعوة، التي أُطلِقَت في سياق الميثاق التربوي العالمي، قبولًا واسعًا وغنيًّا بالتنوع.
9. ما من سلام دون ثقافة الرعاية
إن ثقافة الرعاية تشكّل سبيلًا مميّزًا لبناء السلام، لكونها التزامًا مشتركًا ومتضامنًا وتشاركيًّا من أجل حماية وتعزيز كرامة وخير الجميع، ولأنها عزمٌ على إظهار المزيد من الاهتمام، والانتباه، والتعاطف، والمصالحة والشفاء، والاحترام المتبادل والقبول المتبادل. “هناك حاجة، في أجزاء كثيرة من العالم، إلى مسارات سلام تقود إلى التئام الجروح، وهناك حاجة إلى صانعي سلام، مستعدّين للشروع في عمليّات الشفاء والتلاقي، ببراعة وجرأة”[25].
إن دفّة كرامة الإنسان و “بوصلة” المبادئ الاجتماعيّة الأساسيّة، في هذا الوقت الذي تهزّ فيه عاصفةُ الأزمة قاربَ الإنسانيّة التي تبحث بصعوبة عن أفق أكثر هدوءًا وأكثر طمأنينة، تمنحانا القدرة على أن نبحر في مسار آمن ومشترك. ولأننا مسيحيّون، لنرفع نظرنا إلى مريم العذراء، نجمة البحر وأمّ الرجاء. ولنتعاون كلّنا معًا حتى نتقدّم نحو أفق جديد من المحبّة والسلام والأخوّة والتضامن والدعم المتبادل والقبول المتبادل. لا لأن نستسلم لتجربة عدم المبالاة بالآخرين، ولا سيما الأكثر ضعفًا، ولا لأن نتعوّد على تحويل نظرنا[26]، بل لنعمل يوميًّا بشكل ملموس حتى “نشكّل جماعة تتكوّن من إخوة يرحبّون ببعضهم البعض، ويعتنون ببعضهم البعض”[27].
أعطي في روما، قرب الكرسي الرسولي، في 8 كانون الأوّل / ديسمبر 2020