full screen background image

ابسط يدك للفقير قراءة لرسالة البابا فرنسيس على ضوء الواقع المعاش

343

تحيي الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، في الأحد الثالث والثلاثين من زمن السنة (بحسب الرزنامة الليتورجية اللاتينية) اليوم العالمي للفقراء، الموافق هذا العام الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر، كجرس تنبيه بأننا في حاجة بعضنا إلى بعض، وأنّ لدينا مسؤولية تجاه الآخرين وتجاه العالم.

“ابسط يدك للفقير”

يستخدم البابا فرنسيس في رسالته لهذا العام كلمات من سفر يشوع بن سيراخ (را. سي 7، 32)، أحد أسفار العهد القديم، لتسليط الضوء على قصة الفقر العظيمة التي تحيط أممًا بأكملها. في وقت، سلّطت فيه جائحة كوفيد-19 الضوء على أمر نسيه الكثيرون، ألا وهو الهشاشة. وبحكم التعريف، فإن الفقراء الضعفاء هم الذين يفتقرون إلى ما هو أساسي، بحيث يعتمد يومهم على كرم الآخرين وعلى تضامنهم.

وإلى جانب هشاشة الفقير المنسيّة، أو المتناسية، أتت الجائحة بشكل مفاجئ، لتجد البشريّة نفسها بأنها غير مستعدّة. فقد عاش ملايين الأشخاص حول العالم بأنهم في ضياع وعجز، وأنهم ضعفاء وفي حاجة إلى التضامن والاعتماد على بعضهم البعض لكي يخلصوا. في هذا السياق المُعاش حاليًا، يدخل اليوم العالمي للفقراء لهذا العام، وبشكلٍ مباشر، إلى كل منزل من منازلنا، وينبهنا بأمر لمسناه ورأيناه: ألا وهو الهشاشة.

يساعدنا إدراك “الهشاشة” التي نشهدها في أشهر الإغلاق (المحدودية والحرية المقيّدة، وفقدان الوظيفة وأعزّ الأحباب، والافتقار إلى العلاقات الشخصيّة المعتادة…)، على إعادة اكتشاف حاجة أولئك الأشخاص الذين يعيشون إلى جوارنا بشكل يوميّ، ويحملون في أجسادهم بصمات دائمة لما لمسناه فقط لأيام أو لأشهر معدودة. بالتالي، لا يمكننا أن ننسى، ولا يمكننا تحويل نظرنا إلى مكان آخر، لأننا سنخون حقيقة ضعفنا، وسنبقى منغلقين على أنفسنا، نبحث عن “لقاحات” لا يمكن لأحد أن يضمنها، لأنها موجودة فقط في إدراك أهمية الآخر. بالتالي يتمّ التغلب على أوبئة الأنانيّة واللامبالاة والنسيان من خلال “عدوى رجاء” تنتشر في المجتمع ككلّ.

صورتان متناقضتان

كم من الأيدي الممدودة التي رأيناها هذه الأشهر، التي بدا خلالها وكأن فيروسًا قد طغى على العالم بأسره وجلب الألم والموت واليأس والحيرة! تساعدنا رسالة البابا فرنسيس كثيرًا في هذا المعنى، لأنها تسلّط الضوء على المبادرات التي اتخذت لمساعدة ودعم الأعداد المتزايدة من العائلات التي وجدت نفسها في صعوبة جرّاء الجائحة: “الطبيب مدّ يده كي يهتّم بكلّ مريض محاولًا أن يجد العلاج المناسب. الممرضات والممرضون مدّوا أيديهم، مُتَخطّين ساعات العمل بكثير، من أجل رعاية المرضى. الذين يعملون في الإدارة ويوفرون الوسائل لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح مدّوا أيديهم. الصيدلي مدّ يده وهو يرزح تحت الطلبات العديدة ويعرّض نفسه لتواصلٍ خطر مع الناس. الكاهن مدّ يده كي يبارك بحسرة قلب. المتطوّع مدّ يده كي يساعد الذين يعيشون في الشارع وأيضًا الذين، على الرغم من أن لديهم سقف يحميهم، ليس لديهم ما يأكلونه. رجال ونساء يعملون لتقديم الخدمات الأساسية والأمن، مدّوا أيديهم. يمكننا أن نضيف أياد أخرى قد مدّت، فنؤلف مجموعة من أعمال الخير. كلّ هذه الأيدي تحدّت العدوى والخوف من أجل تقديم الدعم والعزاء” (6).

لكن البابا فرنسيس يقدّم أيضًا صورة متناقضة: مع أولئك الذين يستمرون في الحفاظ على “أيديهم في جيوبهم ولا يتأثّرون بالفقر، الذي غالبًا ما يشاركون به. اللامبالاة والسخرية هما طعامهم اليومي. يا له من فرق بين هذه الأيدي والأيدي السخيّة التي وصفناها! في الواقع، هناك أيادي ممدودة كي تستخدم لوحة مفاتيح الكمبيوتر بسرعة وتنقل مبالغ مالية من جزء إلى جزء آخر من العالم، معلنةً غنى “أقلية حاكمة” محدودة وبؤس الكثيرين أو إفلاس دول بأكملها. هناك أيادي ممتدّة لتجميع الأموال من بيع الأسلحة التي ستستخدمها أيد أخرى، حتى أيادي الأطفال، كي تزرع الموت والفقر. هناك أيادي ممدودة تتبادل جرعات الموت في الظلّ كي تغتني وتعيش في الترف والطمأنينة الزائلة. هناك أيد ممدودة تتبادل الخدمات غير القانونية لتحقيق مكاسب سهلة وفاسدة. وهناك أيضًا أيادي ممدودة، لأشخاص يضعون القوانين، متظاهرين بالصلاح، ولا يلتزمون بها شخصيًا” (9).

إنها كلمات قاسية، لكنها واقعيّة مع كل أسف!

ومن دون أن ندرك، والكلام موجّه لنا أيضًا، أصبحنا غير قادرين على الإحساس بالشفقة أمام صراخ وجع الآخرين. لم نعد نبكي أمام مأساة الآخرين؛ لا يهمّنا الاعتناء بهم، كما لو أن كلّ شيء هو مسؤولية غريبة عنا، وليست من اختصاصنا” (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل، 54). ويشدد البابا فرنسيس في رسالته ليوم الفقراء العالمي لعام 2020 بقوله: “لا يمكننا أن نرضى”، أو أن نستكين، “إلّا عندما تتحوّل الأيدي التي تزرع الموت، إلى أدوات للعدالة والسلام للعالم أجمع”.

دعوة لتحمّل مسؤولية

“ابسط يدك للفقير” هي بالتالي دعوة إلى المسؤولية كالتزام مباشر من قبل أيّ شخص يشعر بأنه يشارك المصير نفسه. إنه حثّ على تحمّل أعباء الضعفاء (7). ويتجلى ذلك في إيماءات الحياة اليوميّة القادرة على التخفيف من مصير أولئك الذين يعيشون في ضائقة، ويفتقرون إلى كرامة أبناء الله. ولا يخشى البابا فرنسيس تحديد هؤلاء الناس على أنهم قديسين حقيقيين، “أولئك المجاورين” الذين يقدمون ببساطة، وبدون ضجيج ودعاية، شهادة حقيقية عن المحبة المسيحية.

يتطلب الوجود الهائل للعديد من وجوه الفقر أن يكون المسيحيون دائمًا في المقدّمة، ويشعرون بالحاجة إلى معرفة أنهم يفقترون إلى شيء أساسي عندما يأتي شخص فقير أمامهم. يكتب البابا فرنسيس في رسالته ليوم الفقراء العالمي 2020: “إن مقابلة شخص فقير تستحثّنا دائمًا وتجعلنا نتساءل: كيف يمكننا المساعدة في التخلّص من تهميشه ومعاناته أو على الأقل من تخفيفهما؟ كيف يمكننا مساعدته في فقره الروحي؟”.

ويضيف: “إنّ الجماعة المسيحية مدعوة إلى الاشتراك في خبرة المشاركة هذه. ولكي نساند الفقراء، من الأهميّة أن نعيش الفقر الإنجيلي شخصيًّا. لا يمكننا الشعور بأننا “على ما يرام” عندما يضحي فرد من الأسرة البشرية في الخلف ويصبح ظلًا. إنّ الصرخة الصامتة للعديد من الفقراء يجب أن تجد شعب الله في المقدّمة، دائمًا وفي كلّ مكان، كي يمنحهم فرصة إسماع أصواتهم والدفاع عنهم ودعمهم في مواجهة الكثير من النفاق والعديد من الوعود الخائبة، وكي يدعوهم للمشاركة في حياة الجماعة” (4).

الصلاة حافز وليست عذر

ساعد فقر الوباء على إعادة اكتشاف الحاجة إلى الصلاة. إنّ هذه الحاجة ليست بالأمر البسيط. على الأرجح، فإن هذه الحاجة هي نتيجة عاطفة مزدوجة. فمن ناحية، الخوف الذي يسيطر على أيامنا، كما ذكرنا، ونشعر فيه بالضعف والهشاشة. ومن ناحية أخرى، مع إدراكنا بأنّ هناك قوة تتجاوز ذواتنا، تهيمن على العالم وتستمر في إبقائه حيًا في رحمته.

وإلى جانب المشاعر التي غالبًا ما تكون عابرة، يجب التمسك بالحاجة إلى الصلاة، وبقوّة.

يشدد البابا فرنسيس على “الصلاة ليست مُهدِّئًا لتخفيف قلق الحياة، أو على أي حال صلاة كهذه ليست بالتأكيد مسيحية. لا بل إن الصلاة هي تأمّل للواقع بعيني الله، وتجعل المرء يتحمل المسؤولية” (مقابلة الأربعاء 21 تشرين الأوّل 2020). ويضيف: “إن الصلاة هي محور الحياة؛ وإذا كانت موجودة يصبح الأخ مهمًّا أيضًا. هناك قول قديم للرهبان المسيحيين الأوائل يقول: ’طوبى للراهب الذي بعد الله يعتبر جميع البشر كالله‘، لأن الذي يعبد الله يحب أبناءه، ومن يحترم الله يحترم جميع الكائنات البشريّة”. بالتالي، فإنّ الصلاة لا ترفع أذهاننا وقلوبنا نحو الله فحسب، بل تجبرنا على النظر إلى وجوه إخوتنا.

في هذا السياق، يشير البابا فرنسيس في رسالته ليوم الفقراء العالمي 2020، إلى أنّه “لا يمكن الفصل بين الصلاة لله والتضامن مع الفقراء والمعذّبين. كي نمارس عبادة ترضي الربّ، من الضروري أن نعترف بأن كلّ شخص، حتى الأكثر فقرًا واحتقارًا، يحمل صورة الله مطبوعة في نفسه. من هذا الانتباه تأتي نعمة البركة الإلهية، التي يجذبها السخاء تجاه الفقراء. لذا، فلا يمكن للوقت الذي نكرسه للصلاة أن يصبح عذرًا لإهمال القريب المحتاج. والعكس صحيح: إنّ بركة الربّ تحلّ علينا وصلاتنا تبلغ هدفها عندما تصحبها خدمة الفقراء” (2).