full screen background image

اهمية النبوّة في العالم المعاصر

675

الأم مريم يلدا

(قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني يوضّح أهمية الشهادة النبوية في الحياة المكرّسة حيث يقول: “عالمنا الذي أوشكت أن تندثر فيه معالم الله، يشعر بمساس الحاجة الى شهادة نبوية قوية يؤديها الأشخاص المكرسون” (عدد 85).

          العالم المعاصر الذي نعيش فيه فقَدَ حقًا قيمة وجود الله، وعدم الاهتمام والشعوربهذا الفقدان، وما على النبي هنا سوى ان يعطي شهادة حيّة بأقواله وأفعاله بإعطاء الأولوية لله والخبرات الآخروية أو المستقبلية، أي الأشياء التي لم تحدث بعد، ولكن يجب ان يدل الناس على الطريق الصحيح.

          النموذج الذي يُشكّل نقطة الاشارة هو الاقتداء بالمسيح العفيف، الفقير والمطيع، مُكَرَسًا كليًا لله لمجد أبيه ومحبة اخوته واخواته، وهنا يظهر جليًا كِلا البُعدين الأفقي والعمودي اللذين يتواجدان في شخصية يسوع الناصري.

          في هذا العدد نرى ان تجسيد النبوة في الحياة المكرّسة يتم من خلال الحياة الأخوية التي تعرّفها الوثيقة بأنها ” … نبوة مُجَسدَة في مجتمع يتوق توقًا عميقًا وأحيانًا بطريقة مُصغرة الى أخوّة بلا حدود”.

          ففي وسط الاختلافات الحالية، الثقافية، الدينية، والعشائرية تبرز صراعات، عنف، ويأتي الطلب مُلحًا على الاشخاص المكرّسين الذين هم في المجتمع الى “الاخلاص في النبوة”، لكي يُدخلونا في علامات الأخوّة الصادقة التي قد تكون منخسًا، مناقضة، معارضة، شكوى وأيضًا مغامرة بالحياة ولكن هي نبوة مجسّدة حيث يشيرالارشاد الى أماكن أخرى ليُظهر أهمية العيش في أخوّة صادقة رغم الانقسامات لأن الجماعة بحد ذاتها تشهد على انها علامة حضور الله، علامة نبوّة.

          ان الكنيسة تدعو جماعات المكرّسين الى انماء روحانية الشركة في داخلها أولاً ومِن ثم الكنيسة مِن خلال حوار المحبة الدؤوب وخاصة في عالمنا المعاصر، كما ذكرنا، حيث تمزقه الكراهية والعنصرية. فحضور المكرّسين في هذه المجتمعات رغم اختلافاتهم الحضارية والثقافية والتفاوت في السن، هم علامة وشهود لحوار دائم وشركة قادرة، على وضع التناغم بين كل الفوارق.

          ان المكرّسين مِن خلال شهادة حياتهم ينادون بقيمة الاخوّة المسيحية وقدرة البشرى السارة “وفوق جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال” (كولوسي ف3/14).

          المحبة كما علّمها وعاشها يسوع المسيح وهي الآن متواصلة معنا عن طريق الروح القدس، هذه المحبة التي توحّد، هي عينها التي تدفع الى التحاور مع الآخرين، خبرة الشِركة مع الله والاخوة. ان محبة الله تريد ان تجتاح العالم، وهكذا تصبح الجماعات الأخوية إرسالية لهذا الحب، وعلامة نبوية لقدرتها على الوحدة.

          ان الكنيسة في جوهرها هي سر شِركة، وهدف الحياة الاخوية ان تعكس هذا السر في حياتها، وهي بذلك تساهم في الحفاظ على مقتضى الاخوّة في الكنيسة، وتعتبر علامة مُعبرة للشِركة الكنسية.

          ان الشركة الاخوية قبل ان تكون وسيلة لرسالة معينة هي حضور إلهي، وتتكون الأخوّة الصادقة عندما يشعر كل فرد منها بأنه مسؤول على الآخر كأمانة. كل واحد يعطي مساهمته لخلق جو مناسب لمقاسمة الحياة، لفهم الآخر، للمساعدة المتبادلة. كل واحد يكون متيقظًا لأوقات التعب، الألم، العزلة لدى الآخر. وكل واحد يجب أن يقدم دعمه لكل المجربين في صعوباتهم وآلامهم. هكذا الجماعة ستكسب القوة لتكون علامة للأمانة الأبدية لله، وبهذا تدعم الايمان وتساعد المسيحيين المنغمسين في احداث ووقائع هذا العالم على العيش مع بعضهم البعض بأمانة.

هناك أمران مهمان للتوصل الى عيش واعطاء شهادة او نبوّة صادقة: الانسجام والتوافق بين الرسالة المعطاة والحياة المُعاشة لكي لا يكون هناك تناقض ونفاق.

          العمل الصحيح الذي يجب القيام به هو التجدد المستمر للأمانة لكلمة الله. لأن فيها يمكن إدراك مخطط الله. فعلى المكرسين ان يدركوا ان المطلوب منهم ليس التأمل بكلمة الله فحسب، بل ان يرجعوا وينظروا بصورة مستمرة الى ذواتهم على ضوء كلمة الله ويحاسبوها. انهم يشكلون علامة سؤال واستجواب مستمر مِن قِبل اعضاء الكنيسة من خلال نبوتهم (شهادة حياتهم).

          ومن جهة اخرى هم في تساؤل امام التحديات التي تأتي من عناصر اخرى من المجتمع. فالرسالة النبوية مهمتها ان تواجه هذه التحديات ومنها:

اولاً: التحديات التي تنجم عن ثقافة تمتعية تحلّل الجنس من كل قيد أدبي وتحوله الى سلعة مستهلكة والى المشاكل والصعوبات التي ترافقها. فجواب الحياة المكرسة يقوم اولاً على ممارسة العفة الكاملة في الفرح، شهادة لقدرة محبة الله في ضعف وضعنا البشري. فالشخص المكرّس يثبت انما ما تحسبه الأكثرية محالاً يصبح بنعمة الله ممكنًا ومحررًا. حقًا نعم انه من الممكن في المسيح ان نحب الله من كل قلبنا ونجعله فوق كل حبٍ آخر.

ثانيًا: التحدي الثاني الناجم عن نزعة مادية الى التملك لا تبالي بحاجات الضعفاء وآلامهم. فجواب الحياة المكرسة تكمن في الفقر الإنجيلي ممارسًا طبق انماط  متنوعة ومصحوبًا بالتزام فاعل بتنمية التضامن والمحبة.

ثالثًا: التحدي الثالث ينجم عن مفاهيم الحرية التي تعزل هذه الميزة الانسانية الجوهرية عن علاقتها الاساسية بالحقيقة والقاعدة الادبية. الطاعة التي تميّز الحياة المكرسة هي العلاج الناجح لهذه الحالة متخذة نموذجًا لها طاعة المسيح لأبيه وتنطلق من هذا السر لتبرهن ان ليس ثمة من تناقض بين الطاقة والحرية.

          ان لدى الاشخاص المكرسين أكثر من غيرهم “الاحساس النبوي”، يقدرون ان يحثوا على الاخلاص والصدق والأمانة في الشهادة والخدمة لجعلها مقبولة ومستمرة كمسيرة في كنيسة الله. هكذا باستطاعتهم ان ينقلوا الى  المؤمنين الآخرين ثروة المواهب التي نالوها ويتلقوا بدورهم المناشدات النبوية الصادرة من الاطراف الكنسية الاخرى. في هذا العطاء المتبادل بملء موافقة السلطة والنظام الكنسي يتجلى ببهاء عمل الروح القدس الذي يوحّد الكنيسة في الشركة والخدمة ويرفدها بمواهب متنوعة ويرشدها بفضل هذه المواهب.

نختم هذا البعد النبوي بقولنا:

– ان النبي هو الذي يعيش العمق الروحي واللاهوتي في كل كيانه وشخصه ” فهو كامن في دمه” وذلك لا يقتصر على نوع من الخدمة يقدمها للآخرين متى شاء وانما هو متجسد في حياة المسيح، لأن النبوة مثلما ذكرنا، هي مشاركة في نبوية المسيح. وهي دعوة لجميع المسيحيين، ولكنها تختلف حسب المواهب والخدم الكنسية ويجب ان تجعل من الكنيسة جماعة واحدة صادقة ومعنية. جوهر هذه الخدمة النبويّة هو ان نتذكر ونخدم مخطط الله على الناس في ضوء الكتاب المقدس كما يذكرنا العدد 73 بأن… (الحياة المكرسة تتلقى من الله الرسالة النبوية، رسالة التذكير بقصد الله في بشرية تحظى بالخلاص والمصالحة).

– مدرسة النبوة هي في الاصغاء المنتبه الى كلام الله، خبرة عميقة معه، سخاء في اتباع المسيح، انفتاح الى عمل الروح. مع هذه الصفات قراءة وتميز لعلامات الأزمنة. دعوة الله لنا من خلال واقعية حياتنا، ويمكن بالتالي ان يقودنا الى العمل حسب مخططه، والاهتمام بطريقة مثابرة ومثمرة لقضايا عصرنا.

– ان نمط حياة النبي (الشخص المكرّس) يمر من خلال اعلان لفظي، حركات، رموز الحياة. الشهادة لخيرات الدنيا الاخرى، ونشر رسالة التحرير التي تلقتها الكنيسة من المسيح، وتأخذها على عاتقها نبويًا. فإذا استطاعت الحياة المكرّسة ان تصون قوتها النبويّة أضحت خميرة انجيلية داخل الثقافة قادرة على تنقيتها وتطويرها. ولهذا نلاحظ ان في هذا العدد يعطي اهمية كبيرة الى التميّز لعلامات الأزمنة حسب الخصوصيات والمواهب المتنوعة، أي الى التحدي في دعوات الله، وتحديات الزمن لصياغة أجوبة جديدة لمعضلات الجدية الناشئة من عصرنا. هكذا إذًا لا تكتفي الحياة المكرّسة بقراءة علامات الأزمنة وانما تساهم في صياغة وتحقيق برامج جديدة في عمل البشارة تتلاءم والأوضاع الراهنة.