full screen background image

الغفران

1271

                                                                       الاخت فيليب قرما

الغفران هو رحمة الله اللامتناهية المقدَّمة للخاطئ مجّانا، بدلاً من التعامل معه بالعدالة التي تستوجبها خطاياه، وبالتالي يطلب الله من الانسان أن يتعامل مع أخيه الانسان على مثاله، فيرحمه رحمة لا حدَّ لها عندما يسيء إليه. الغفران هو نسيان الإساءة كلّياً وإلى غير رجعة وبدون ندامة. إنه إعادة العلاقة كالسابق وأحسن من السابق. الغفران هو العلاقة الصحيحة مع الله ومع الآخرين. إنَّ الكتاب المقدس يقدِّم الانسان الخاطئ مثل شخص مدين يبرئه الله من دينه بالصفح عنه مجاناً، فينسى الخطيئة كلياً ويتعامل معه من منطلق رحمته ومحبته. إنَّ قلب الله ليس مثل قلب الانسان، فهو يحب الانسان ولا يشاء موت الخاطئ بخطيئته.

كثيرة هي التعابير في الكتاب المقدس، التي تظهر رحمة الله، وهذه الرحمة هي مجانية الغفران الالهي. إذا كانت أكبر الوصايا وأوّلها هي حب الله وحب القريب (مت22/34-40)، فإنَّ اختصار الوصايا وايجازها هي في وصية ” الغفران ” كل مرة ودائماً: فدنا بطرس من يسـوع وقال له: ” يا رب كم مرة يُخطئ إليَّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ “، فقال له يسوع:  ” لا أقول لك سبع مرات، بل سبعين مرة سبع مرات ” (مت 18/21-22؛ لو 17/3-4). وليس الغفران وحسب، بل أيضاً عدم التوبيخ: ” لا تلُم التائب عن الخطيئة، واذكر أننا مذنبون جميعاً ” (سي 8/5 ).    

الغفران هو حب. القدرة على الغفران هي القدرة على الحب، ويدوم الغفران ما دام الحب. هذا الحب دفع ثمنه يسوع على الصليب من أجل غفران الخطايا للبشر، لأنه أحبّهم حبّاً أبديّاً في عهد أبدي (راجع متى 26/26-28). ” لأني رحيم، يقول الرب، لا أحقد للأبد ” (إرميا 3/12). إنَّ رحمة الله وغفرانه بسخاء يخلقان في قلب الانسان القدرة على عفو ومغفرة إساءة الآخرين ومن ” صميم القلب “. ” لا يكوننَّ عليكم لأحد دينٌ إلاّ حب بعضكم لبعض ” (روم 13/8). وحده الغفران يستطيع أن يحوِّل القلب القاسي والعنيف إلى الرحمة. إنَّ الرحمة والغفران هما الدواء الشافي من كل الأمراض، من الخطأ والإساءة، وحتى الخطيئة. هذا ما يؤكِّده يسوع في مثل الابن الشاطر، حيث يُرينا غفران الاب حتى قبل أن يتحرك ابنه الضال، فيستقبله ويعامله كما لو أنَّ شيئاً لم يحدث.

إنَّ هذا الغفران ليس مشروطاً. فوالد الابن الضال لم يضع أي شرط لكي يغفر لابنه. وكذلك غفران الرب يسوع للمجدلية والزانية والمخلَّع ولص اليمين وصالبيه لم يكن مشروطاً.

إنَّ يسوع في حياته وتعاليمه ومواقفه علّمنا أن نعيش الغفران. لم يكن في حياة يسوع موضعٌ للحقد والضغينة، ولا ميلٌ إلى الانتقام أو الأخذ بالثأر. إنه جاء إلى أرضنا ليحمل إلينا محبة الله اللامتناهية. ومن بين الأمثال والتعاليم الكثيرة التي أوردها عن المغفرة نتوقَّف عند الصلاة الربية.

الصلاة الربية: في هذه الصلاة الرائعة التي علَّمنا إياها يسوع، يدعونا إلى التماس المغفرة من الله أبينا. وهذا اعتراف منا بكوننا خطأة ونسأل الله أبانا السماوي أن يرحمنا ويغفر لنا. ولكننا في نفس الوقت علينا أن نتمثَّل بقلب أبينا السماوي فنرحم إخوتنا ونغفر لهم خطاياهم: كونوا رحماء، كما أنَّ أباكم السماوي، هو رحيم! وفي نهاية الصلاة الربية، يخلص يسوع إلى هذه النتيجة: ” إن تغفروا للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس، لا يغفر لكم أبوكم السماوي زلاتكم ” (متى 6/14-15). كل مرة نغفر للآخرين، يُعطى لنا قلب جديد ومتجدّد. في المغفرة يُزرَع قلبٌ مكان قلبنا، وهذا القلب هو قلب الله!

وكان ابن سيراخ قد سبق وربط بين غفران الله وغفران الانسان، إذ قال: ” اغفر لقريبك ظلمه لك، فإذا تضرَّعتَ تُمحى خطاياك. إن حقد إنسان على إنسان آخر، فكيف يجرؤ على طلب الغفران من الله؟ أم لا يرحم انساناً مثله ثمَّ يستغفر عن خطاياه؟ ” (سيراخ 27) أعطانا الرب يسوع مثالاً على ذلك في انجيل القديس متى الفصل 18، مثل الخادم القليل الشفقة الذي أعفاه سيِّده من دين كبير (عشرة آلاف درهم من الفضة). الخادم هنا في وضع خطير لا مخرج منه إلاّ رحمة سيده. وسيده أعفاه من كل هذا الدين عندما طلب منه ذلك، أمّا هو فلم يُرِد أن يعفي أحد رفاقه من دين طفيف (مائة دينار فقط). إنَّ قلب السيد الكثير الرحمة أعفى عبده من كل ذلك الدين الباهظ، أمّأ هذا العبد فلم يعفِ رفيقه من هذا الدين البسيط الذي كان له عليه، ولم يعطه اي مهلة حتى يتمكن بعدها من تسديد الدين! عندما سمع سيده بذلك، دعاه وقال له: يا عبد السوء، أعفيتك من دينك كله، لأنك رجوتني، أفما كان يجب عليك أن ترحم صاحبك مثلما رحمتك؟ وغضب سيده كثيراً، فسلّمه الى الجلادين حتى يوفيه كل ما له عليه. هكذا يفعل أبي السماوي إن كان كل واحد منكم لا يغفر لأخيه من كل قلبه.

أجل، الغفران واقع الهي. فإذا أردنا أن نكون أبناءً لله، علينا أن نتحلّى بصفات أبينا السماوي، وأن نغفر مثله مرة ومرتين… وسبعين مرة سبع مرات… أي إلى ما لا حدَّ له. فمهما ارتفع جدار الخطيئة، فإنَّ غفران الله يبقى أعلى منه!

إنَّ الغفران صعب جدّاً، فهناك إساءات تدخل إلى صميم قلبنا وتجرح شعورنا. إذ ذاك تثور فينا الأنانية ويتحفَّز فينا حب الانتقام: واحدة بواحدة، وسن بسن…، بل قد نذهب إلى أن نكيل الكيل كيلين. في هذه الحالة إذا سايرنا طبعنا وميولنا وأَرضينا فينا حب الانتقام، هل نحن مسيحيين؟ كلاّ! فالمسيحي عليه أن يكون كمسيحه في كلّ شيء. ألم يدعُنا الله إلى التسامي فوق الإساءات وتجاوزها، بدافع المحبة الصادقة، التي يقول عنها القديس بولس: ” المحبة لا تحنق ولا تبالي بالسوء… وهي تعذر كل شيء… ” (1كور 13/5-7). فمثالنا في علاقتنا بالقريب هو شخص يسوع الذي سامح الزانية ومنع الناس من رجمها، وغفر لزكّا وتعشّى معه، وعطف على السامرية وأعطاها ماء الحياة الذي يروي كل عطش.

 كثيراً ما نرفض الغفران، متذرّعين بحجج مثل هذه: ” أين تبقى كرامتي، أين يبقى اعتباري…الخ؟ بالحقيقة، هذا صحيح. إنها بدون شك اعتبارات وجيهة، ولكن إذا رددنا على الشتيمة بالشتيمة، هل تعود إلينا كرامتنا، كلاّ. أن نعالج الخطأ بخطأ، هذا غير صحيح. لا أحلى من الغفران بملء إرادتنا وبفرح. إنَّ أعظم غفران هو عندما نكون في السلطة، وفي مركز قوة، وبإمكاننا أن ننتقم، ولكن نتعامل مع خصمنا عكس ذلك. ولايضاح ذلك اورد مثالاً من الكتاب المقدس كلنا نعرفه، يوسف بن يعقوب الذي باعه إخوته إلى الاسماعيليين بعشرين من الفضة (تكوين 37)، ذاك الذي مضى كعبد إلى مصر، صار سيداً هناك، بعدما عيَّنه فرعون وكيلاً على كل بيته، وأصبح الشخص الثاني في مصر، أي أنه أصبح في مركز قوة. لم ينتقم من إخوته عندما أتوه من أرض كنعان طالبين منه المساعدة، وإنَّما قبَّلهم وغفر لهم، لا فقط اكراماً لأبيه يعقوب، بل لأنه لا يريد أن يحلَّ محل الله في معاقبة البشر. هو يريد أن يتشبه بالله اللامتناهية رحمته.

إنَّ علماء الكتاب المقدس يقولون: إنَّ يوسف بن يعقوب هو رمز ليسوع المسيح الذي باعه يهوذا لليهود بثلاثين من الفضة. يسوع نفسه ألم يكن له كرامة عندما غفر للذين أساءوا إليه وأهانوه وعذّبوه ورفعوه على خشبة العار والموت؟ ” إنه في قمة آلامه قال من أعلى صليبه: ” يا أبتِ اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ما يفعلون ” (لوقا 23/34).

 فيسوع على الصليب صالح الجنس البشري مع الله الاب بالغفران. بهذا محا يسوع صك خطايانا التي تستوجب الموت وأعطانا الحياة. ولو لم يغفر لكان موته باطلاً. فليس موته فقط هو الذي خلَّصنا بل غفرانه وموته. بهذا جعل يسوع المغفرة ممكنة ودعانا إليها، ملغياً شريعة العين بالعين، والسن بالسن. وهو حقّق لنا الخلاص بدمه ليعلِّمنا أن لا خلاص إلاّ بغفراننا للآخرين: ” هذا هو دمي الذي  يسفك لغفران الخطايا “.

فالصليب لا يفيدنا إذا وضعناه في صدر البيت أو علَّقناه على صدورنا أو نقشناه على أجسامنا لنتباهى به. لا معنى لافتخارنا بالصليب إلاّ إذا كان الصليب لنا مدرسة منه نتعلّم الغفران والمصالحة مع الله والآخر، فنعيش هذا الغفران في حياتنا على مثال المسيح.

إنَّ يسوع يطلب منّا أكثر من ذلك. إنه يريدنا أن نكون المبادرين في الغفران. ” إذا كنت تقرِّب قربانك وذكرت أنَّ لأخيك عليك شيئاً، فاترك قربانك عند المذبح، واذهب فصالح أخاك ثمَّ عد فقرِّب قربانك ” (متى 5/23ـ24). يقول الرب: إني أريد رحمة لا ذبيحة. وكذلك يقول: “وإذا قمتم للصلاة وكان لكم شيءٌ على أحد فاغفروا له، حتى يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاّتكم. وإن كنتم لا تغفرون للآخرين لا يغفر لكم أبوكم الذي في السماوات زلاّتكم ” (مرقس11/25-26).  نُشِرَ في مجلة التايمس الامريكية العلمانية خبر زيارة البابا يوحنا بولس الثاني للسجن الذي حُجِز فيه محمد علي أغا التركي الذي أطلق النار عليه في محاولة لاغتياله. وصفت المجلة أنَّ ما قام به البابا لم يكن فعل غفران فقط، وإنما كان ذلك رسالة موجهة الى العالم بأسره أنَّ جوهر المسيحية يقوم على الغفران، لأن المسيح كان أوَّل من غفر لأعدائه من على الصليب.

الأسقف روميرو قال قبل اغتياله باسبوعين: ” بإمكانكم أن تخبروهم إذا تمكّنوا من قتلي فأنا أغفر لهم “. الكردينال جوزيف في شيكاغو، قبل ثلاث سنوات من وفاته، اٌتُّهِمَ بأنه اعتدى جنسياً على شاب مات بمرض الايدز. وأوضح الكردينال كم أنَّ تلك التهمة الباطلة الكاذبة كانت مدمِّرة بالنسبة إليه. لكن عندما سمع أنَّ هذا الشاب يحتضر، سارع الكردينال لزيارته والوقوف إلى جانب سريره وأعلن غفرانه الشخصي للتهمة الباطلة في محاولة منه للمصالحة.

في غفراننا للآخرين يمكن أن نختبر الغفران لأنفسنا. عندما ندرك عظمة الغفران الالهي، عندها سنقدِّم الغفران عطية مجانية للآخرين، لأنه أُعطي لنا مجاناً. إنه لا يكلِّفنا شيئاً لأن ثمنه قد دُفِع مقدَّماً في محبة يسوع على الصليب.

حذار من أن نكون على مثال العبد العديم الشفقة الذي نسي رحمة سيده إليه، وألقى رفيقه في السجن، أو على مثال الابن الأكبر الذي لم يستطع مسامحة أخيه فجاء إلى أبيه معاتباً غاضباً، ولم يشترك في وليمة الفرح والغفران التي أقامها والده لأخيه التائب.

خاتمة: نحن مدعوون إلى الاقتداء بالله في الغفران إلى ما لا نهاية دون ملل أو شروط. هذا هو الحد الذي لا حدَّ له، وقد علّمنا الانجيل لا أن ننتقم سبعاً وسبعين مرة بل أن نغفر سبعين مرة سبع مرات. أتمنى ونحن في نهاية الصوم الكبير أن نستعدَّ لعيد القيامة بفحص ضمير شامل، فنصفّي حساباتنا مع الله تعالى بالتقرّب من سر التوبة (الاعتراف) فنتوب إليه وننال غفرانه، ومع القريب بغفراننا الكلي لإساءاته إلينا ونسيانها تماما.