full screen background image

زمن الصوم الكبير

650

مع مريم نحو الاعالي

“هاءنذا أمة للرب فليكن لي حسب قولك” (لوقا 1:46)

سلام الرب معكنَّ جميعاً!

أملي ان تكنّ بخير وبصحة وعافية، وأن اموركنّ تسير على ما يرام. أحب ان أُذكركن بأننا مقبلون على زمن الصوم الكبير كما تفرضه علينا الكنيسة المقدسة مذكّرِةً بصوم ربنا يسوع المسيح، واحياءً لذكرى آلامه وموته وقيامته. لذا تدعونا امنا الكنيسة ان نعيش هذا الزمن المقدس ليكون زمن ارتقاء النفس والجسد معا الى ما يفوق الطبيعة لنتحد بالله ونتنعم بحضوره ليشغل كياننا كله.

الصوم الكبير هو زمن التوبة الذي يسبق العيد الكبير. بمعنى آخر هو أحد أزمنة السنة الطقسية الذي يأتي مباشرة قبل عيد القيامة. بالحقيقة نسمّي هذا الصوم، “الصوم الكبير”، لأنَّ عيد القيامة هو أكبر الأعياد المسيحية، القديس غريغوريوس النزينزي اللاهوتي الكبير يقول: إنَّ عيد القيامة هو عيد الاعياد وأهمُّ الاحتفالات، كالشمس التي تضيء كلَّ الأعياد الأخرى. ولهذا السبب نقول عن هذا الصوم هو الصوم الكبير. فَكِبَرُهُ لا يأتي من عدد أيام الصوم، وإنَّما يأتي من عظمة عيد القيامة الذي نتهيأ له بهذا الصوم. المسيحي في صومه، يضع أمام عينيه أنه سائر إلى القيامة. الرب يسوع صام 40 يوماً في البرّية قبل موعظته على الجبل، بمعنى آخر، المسيح تهيأ لعمله الخلاصي بصوم دام اربعين يوماً. والكنيسة أمنا تريد أن تحيي ذكرى صوم يسوع بصوم مماثل له.

كيف نقبل دعوة يسوع المسيح إلينا في زمن الصيام هذا إلى التوبة والى الارتداد؟ كيف نصل إلى تغيير حياتنا بالفعل؟ يجب أوّلا أن نفتح قلوبنا على الليتورجيا المقدّسة التي تقدمها أُمنا الكنيسة لنا. فالزمن الذي يسبق الاحتفال بالقيامة هو هبة من الرب لنا، ومناسبة ثمينة للاقتراب منه، وللدخول في عمق أنفسنا وسماع الهامات الروح الداخلية.

لذا، أدعوكنّ اخواتي المباركات في زمن الصوم المقدس هذا إلى الصلاة بحرارة وثقة إلى الله كي يمنح كل واحدة منّا خبرة متجدّدة لرحمته اللامتناهية. هذه الهبة وحدها تؤهّلنا لقبول محبة المسيح وعيشها بفرح وسخاء. “الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَء، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ،” (1 كورنتس 13، 4-6).

يذكّرنا القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس أن المغفرة من أسمى أشكال المحبة. وزمن الصوم هو مناسبة للتعمّق في بُعد هذه الحقيقة. ففي سر المصالحة يغفر لنا الله الاب بواسطة ابنه، ويدعونا إلى العيش في المحبة، معتبرين الآخر أخاً واختاً لا عدوّاً. ويحملنا ايضاً على التفكير والعمل في نور المحبة الحقيقية، المنفتحة على جميع أبعادالحياة البشرية.نموت عن ذواتنا لنعبر في المسيح إلى القيامة. إنه زمن المواظبة للثبات على الأمانة تجاه دعوتنا المسيحية، ويساعدنا هذا الموقف الداخلي على حمل ثمار الروح (غلاطية 22،5) وعلى إبداء المساعدة بقلب منفتح لكل من يعاني من الحاجة أو العوز.

تدعونا الكنيسة الى التوبة قبل الامتناع عن الطعام، لأنَّ الامتناع عن الطعام ليس عملاً روحيّاً في ذاته، بل هو إشارة ودليل على التسامي الذي تريده الكنيسة لنا في زمن الصوم. الامتناع عن الطعام إذا لم ترافقه الصلاة والتوبة يبقى فارغ المعنى. في الصوم يسمو الانسان عن جسده وعن رغباته، وفي الصلاة يسمو الانسان بروحه ليتّحد مع ربه،  وكأنَّ الصوم والصلاة معاً يحققان وحدة الانسان في سموّه وتعاليمه عن العالم، ليرتاح مع ربه، ويجد عنده مصدر تجدّده

في جسده وفي روحه، فينال النعمة والمغفرة.            

كلنا نعرف مثل الابن الضال في انجيل القديس لوقا الفصل15أو مثل محبة الأب، لأنَّ التركيز فيه هو على رحمة الاب وغفرانه اللامحدود. في هذا المثل نرى أن أباً كان له ولدان: الابن الاصغر طالب أباه بحصته من الميراث. وبحكم الشرع كلنا نعرف أنَّ الميراث لا يوزَّع على الابناء إلاّ بعد موت الآب، لكن هذا الابن الاصغر، اعتبر أباهُ ميتاً، وأبوه لا يزال على قيد الحياة، هذه هي خطيئته الكبرى، أنه موَّتَ أباه في حياتهِ، هذا الولد أخذ ما يحقُّ له من ميراث والده، وسافر بعيداً، وقطع كل صلته بأبيه ليعيش مستقلاً عنه تماما،ً كما أراد آدم أن يكون سيِّد حياتهِ. خرج الابن الأصغر من بيت أبيه، كما خرج آدم من الفردوس. هذا الابن الأصغر بددّ مال أبيه كما بددّ آدم صورة الله فيه وشوَّهها، ثمَّ صرف كل ماله مع الزواني وافتقر.

أصبح أجيراً، يرعى الخنازير، أي يرعى الخطيئة، لأنَّ الخنازير في العهد القديم هي رمز للنجاسة والخطيئة. كاد يموت جوعاً لأنَّ الخطيئة لا تُشبِع أحداً أبداً. بعد ذلك رجع الى نفسه وقرَّر أن يعود الى البيت الأبوي، بعد أن تذكَّر فَيض نِعم أبيه على الخدام الذين يعملون عنده، متمنِّياً أن يقبل أبوه توبته ورجوعه كأحد الخدام لا أكثر، لأنه في رأيه لا يستحقُّ البنوّة بعد، وسيكون سعيداً جداً إذا قبِل أبوه أن يمنحه هذه النعمة، أي أن يكون خادماً عنده. فقام ورجع فعلاً إلى أبيه. وكان قذراً، بشعاً، ثيابه ممزقة، رائحته نتنة، لأنَّها رائحة خطيئة وعبودية. ولكنَّ الاب لم يهمَّه شيء، إنه ولده العائد، ولده الذي رجع سالماً، والذي طالما انتظره. فحالما رآه أبوه ألقى بنفسه على عنقه، وقبَّله طويلاً. وعندما بدأ الولد يقول معترفاً: يا أبتِ أخطأتُ إلى السماء وإليكَ، ولا أستحقُّ أن أُدعَى لك اٌبناً، قاطعه أبوه ولم يدَعه يُكمِل اعترافه هذا، بل نادى الخَدَم قائلاً: أسرِعوا فالخلاص لا يحتمل الانتظار. أسرعوا هاتوا أفخر ثوب وألبسوه. إنَّه ابني! ضعوا خاتماً في اصبعه، ليحقَّ له السلطان على كل بيتي من جديد. ضعوا حذاءً في رجليه ليخرج من حالة التشرُّد والعبودية. إنَّه ابنٌ حرٌّ الآن، فالعبيد وحدهم يسيرون حفاة. لم يكن الابن يستحق شيئاً من هذا، ولكن محبة الاب حلَّت محل عدالته، عندما رأى ابنه عائداً. وقد فرح به لدرجة أنَّه ذبح له العجل المسمَّن، وأقام له عيداً عظيماً. هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب. هذا كان موقف الاب الذي عكس بالضبط صورة الاب السماوي لأبنائه التائبين اليه. أمّا الابن الأكبر فكان يعمل في الحقل عندما عاد اخوه. ولمّا رجع واقترب من البيت سمع ضجَّة العيد. فسأل أحد الخدم عن الأمر فأخبره هذا عن عودة أخيه سالماً، وعمّا فعل الاب له. غضب الابن الأكبر لأنه ابن الشريعة الذي يمثِّل الفريسيين. إنَّه يرفض الخطأة، وأولهم أخاه. إنَّه يريد محاكمة أخيه، ورفض الدخول الى البيت لأنَّه لم يُرِد أن يجتمع مع أخيه في بيت واحد. فراح يتَّهِم أباه، ويتَّهِم أخاه مُظهِراً أنَّه صاحب الفضل على أبيه. نسي الأبن الأكبر أنَّ حق الحكم ودينونة الاخرين محفوظ لله وحده هو القائل في الانجيل المقدس: ” لا تدينوا لئلا تدانوا “. ورغم تصرُّف الابن الأكبر غير الصحيح، فالأب لم يوبِّخه، ولم يحكم عليه، بل أعطاه فرصة المشاركة في وليمة الغفران، في وليمة العيد. يسوع لم يكمل هذا المثل، بل قطعه هنا، تاركاً مجال إمكانية الخلاص أمام الابن الأكبر، الذي كما قلتُ يمثِّل الفريسيين. أمّا الابن الأصغر فيمثِّل جُباة الضرائب والخاطئين، الذين كانوا يُقبِلون الى يسوع ليسمعوه ويتوبوا إليه، مما أثارَ تذمُّر الفريسيين، لأن يسوع يخالط الخاطئين ويأكل معهم. الرب يُعلن لحزقيال النبي باَّن مَرضاته ليست بموت الشرير بل بتوبته عن طريقه الشريرة فيحيا. الله يُبغض الخطيئة ويحبُّ الانسان ولو كان خاطِئاً. فإن تابَ وعادَ عن شرِّه يخلِّصه الرب. وإن لم يتُب يهك بخطيئته
ما أروع هذا المثل الذي يُظهر عِظم محبة الاب ورحمته، الذي هو صورة الاب السماوي. أبناؤه يبتعدون عنه بالخطايا، وهو يبادلهم بالمحبة اللامتناهية.
بالإضافة الى فكرة التوبة فالصوم يهدف أيضاً إلى اشراك الانسان في صليب المسيح، لكي يدخله ضمن تصميم الفداء، فيرى في صومه واماتاته استمراراً لآلام المسيح واشتراكاً معه في خلاص البشر إخوته: ” أتمم في جسدي ما نقص من آلام المسيح، في سبيل جسده الذي هو الكنيسة “(قولسي 1/24). وهكذا يصبح الصوم انفتاحا ًعلى نعمة الفداء وسبيلا ًيدخلنا إلى سر المسيح الخلاصي، ووسيلة لاكتساب المزيد من الوعي المسيحي الذي يجعلنا نفهم أن لكل شيء في حياتنا معنى عميقاً وطابعاً خلاصياً، وان جهودنا وآلامنا ليست باطلة، بل هي وسيلة تقربنا من المسيح وتدمجنا به، أي عندما نشرك آلامنا بآلام المسيح نحقق خلاصنا وخلاص اخوتنا.
ولهذا ادعوكنّ اخواتي العزيزات الى التأمل في كلمة الله بصورة خاصة في هذا الزمن المقدس كزمن تجديد ومراجعة محبتنا وتكرسينا للرب في نذورنا الرهبانية، وان نبحث عن كل ما يعيق مسيرتنا واتحادنا بالله، بالرغم من الصعوبات التي نجابهها على مثال ربنا المسيح، لان الصليب ليس الهدف وانما وسيلة تساعدنا عند حمله ان نستقبل فرح القيامة، فرح قيامتنا من سقطاتنا المتواترة في انانيتنا ومزاجنا و عن كل ما يبعدنا عن فرح اللقاء مع الله والقريب.

أتمنى لكنَّ صوماً مباركاً كعطية من الرب لكل واحدة منا

                                                                      الأخت مريم يلدة شابو

                                                                       الرئيسة العامة للرهبانية