الأخت كلارا
في عالم هائج ومضطرب، عالم تضيع فيه الأصوات وسط الضّجيج من كلّ جانب،
أكان في الطّرقات حيث أصوات السّيّارات والمطورات والشّاحنات،
أو صيحات الباعة المتجوّلين، أم هدير المصانع والمعامل ومولّدات الكهرباء، وصراخ النّاس
أو في الدير أم في المنزل الّذي يضجّ بسكّانه المتّفقين تارّة والمتشاجرين تارة ثانية على وقع الأصوات الصّادرة من التّلفزيون والرّاديو وكلّ أجهزة البيت الكهربائيّة؛ أم في الأماكن العامّة على أنواعها.
تصحّ مقولة “السّكوت من ذهب”، وأبعد من ذلك يصبح الصّمت التّامّ حاجة ماسّة، وليس أيّ صمت، بل ذاك الّذي يفصلك عن كلّ شيء خارجيّ ويجعلك تدخل في صلة مع الله.
فكطّفل الّذي ملأ الدّنيا ببكائه وصراخه طالبًا حضن والدته ليهدأ، هكذا هو الإنسان ضعيف بعيدًا عن أبيه السّماويّ. فرغم كلّ الحركة تراه يستقر في حضن الله وحده عند الصمت والصّلاة، إذ يجد البركة ويدخل بشركة وسلام مع الله مستغنيًا عن الكلمات التشجيع والشكر، ويضع التّمتمات الفارغة جانبًا، ويطرد الأصوات الدّاخليّة العالية، ويثبّت نظره نحو الآب وحده واضعًا كلّ ما أثقل حمله بين يديه طالبًا مشيئته، ويدخل في راحة مقدّسة، في هدوء مع المخاوف والشّكوك والتّساؤلات.
فتهدأ تلك العاصفة الهائجة فيه لأنّه في وقفة الصّلاة الصّامتة تلك.
انتهر يسوع العاصفة وأسكن أمواج النّفس المضطربة “فكان هدوء عظيم”، ولا يعود شيء يخيّم إلّا “صوت من السّكون ” فيتكلّم الله “الصّامت” معه، ويكون وقع كلامه كالنّسمة الرّقيقة تترك أثرها في سامعها وتفعل فيه وتفتّت القلوب المتحجّرة، وتبثّ نورًا مقدّسًا وحبًّا عظيمًا يحفظ النّفوس بهدوء وسلام ويقودها بتواضع وسط ضوضاء الحياة.
فليس مطلوب أن نكون مثل يسوع ونصلّي في الأماكن المقفرة أو أن نمضي اللّيل كلّه نصلّي.
أم مثل كبار الرّهبان والنّسّاك الّذين اختاروا أن ينعزلوا في الجبال المقفرة والصّحارى والمغاور فيشعرون بقربهم من الله مدركين قيمة الصّمت كتمرين للرّوح. ولكن لنتمثّل أقّله بشخصّيات تاريخيّة تركوا في العالم بصماتهم لأنهم عرفوا قيمة الصّمت في الصّلاة، نذكر مثلاً الجنرال شارل ديغول الّذي قال مرّة: “لو أنّي لم أتعوّد أن أركع يوميًّا ساعة كاملة أمام الله وأستغرق في الصّلاة لما استطعت أن أقف 24 ساعة أمام النّاس.”
لنعطي إذًا، ولو لبرهة صامتين إلى صوت الله، فالصّلاة الأكثر غنى ليست هي الّتي نُكثر فيها الكلام مع الله وإنّما هي الّتي نصغي فيها إلى الله أكثر.