full screen background image

زمن الصوم الكبير

668

مع مريم نحو الاعالي

“هاءنذا أمة للرب فليكن لي حسب قولك” (لوقا 38:1)

اخواتي المباركات في كل الاديرة والرسالات!

سلام الرب يسوع معكنًّ جميعاً

انتهز هذا الموسم الطقسي الذي سنبدأ فيه الآن، زمن الصوم الكبير والذي سيستمر سبعة أسابيع، لنستعدَّ بعده لاستقبال الأسبوع المقدس ولنشترك بآلام الرب يسوع حتى نحتفل بفرح القيامة والانتصار على الخطيئة والموت. لنتأمل معاً في هذه الفترة الزمنية المعطاة لنا في الكنيسة، ولنراجع حياتنا الرهبانية على ضوئها.

الصوم هو استمرار لفعل التوبة، والتوبة تعنى النهوض المستمر والارتماء في حضن الآب حيث نكتشف قلب الله غير المحدود في المحبة. لذلك عندما نقرأ مثل الابن الضال في انجيل لوقا، “حيث أقوم وأرجع إلى أبي..18:15”. نحن نتذمر على الله ونقول: ربنا تركنا، بينما الحقيقة هي: أننا نحن تركناه وذهبنا إلى كورة الخنازير، وعندما نرجع نكتشف حقيقة أبدية: إن محبة الله لا يمكن أن تنقص، بل على العكس يزداد تعمقنا في اكتشافها. القصد من التوبة هو التعمق في اكتشاف أبعاد حب الله لنا واتساع قلبه. فأنا بذّرت ما أعطاني إياه من مواهب وعلم وصحة ومال… الخ وأسرفتها في العالم… بينما أبي يفاجئني بمحبته العظيمة لي، إنه يركض ويقع على عنقي ويقبِّلني… لنتأمل في عظمة هذا الحب!!!.

وهناك قصد آخر من التوبة وهو اكتشاف غنى بيت الآب، غنى الكنيسة التي فيها الحلة الأولى (المعمودية)، فيها الخاتم علامة الشركة الدائمة مع الآب، وفيها العجل المسمن- هذه وليمة جسد الرب ودمه على المذبح. ومن أجمل مميزات التوبة الفرح. هذا الفرح أكبر مشجع لنا في رحلة حياتنا… فرح أولاد الله التائبين والمجتمعين مع أبيهم حول المائدة السماوية (المذبح)، فرح رجوع الأبناء إلى بيت أبيهم، هذا الفرح الذي لا يوصف. إنها طبيعة الكنيسة الأم التي تعيش في الفرح الدائم، والفرح بالمسيح هو زاد الكنيسة في رحلة صومها وجهادها المقدس.

احساس الإنسان في معظم الأوقات، أنه غير محتاج للتوبة لأنه بار في عيني نفسه. ولعلَّ هذا كان إحساس الابن الضال عند خروجه من بيت أبيه: إنه يستطيع تدبير أموره بنفسه، وأنه سيصنع أمورا ً عظيمة بالأموال التي أخذها من أبيه، ويقول: “بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم” (إش 10: 13). اسمع ماذا يرد عليه الله الآب: “هل يفتخر الفأس على القاطع بها أو يتكبر المنشار على مردده…؟” (إش 10: 15). من كثرة ارتباكات، وانشغالات، وشهوات، وماديات هذا العالم يقسو القلب فيقول النبي: “والشعب لم يرجع إلى ضاربه ولم يطلب رب الجنود” (إش 9: 13). ويأتي الوقت- من كثرة قسوة القلب- تضيع فرص التوبة ولا يحس الإنسان بمقاصد الآب الذي يريد خلاصنا- “الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين” (رو 8: 32). هذه القسوة تؤدى حتما ً في النهاية إلى التمادي في الشر الذي يحرق صاحبه كالنار” (إش 9: 18). ولكن ما السبب في هذه القسوة؟ هموم هذا العالم الفاني، وكثرة شهواته وعثراته وأخطرها الثعالب الصغيرة “خذوا لنا الثعالب، الثعالب الصغار المفسدة الكروم” (نش 2: 15). وهذه الثعالب الصغيرة هي الخطيئة التي تبدأ صغيرة، فتكبر بعدئذٍ وتقسّي القلب، وحينئذ يصعب التخلص منها بسبب التهاون وعدم محاسبة النفس باستمرار.لنسأل ذواتنا، كيف يمكننا أن نرجع إلى الله؟ الجواب: عن طريق كلمته المقدسة،  فكلمة الله تعلم الجهال، وتنقّي القلب: “أنتم أنقياء من أجل الكلام الذي كلمتكم به” (يو 15: 3). وكلمة الله تلين القلب وتذيب قساوته وتعلم الاتضاع والتوبة والبحث عن خلاص النفس. فالصوم اذن هو مسيرة في نور الرب “هلم فنسلك في الرب” (إش 2: 5). فالسلوك في وصايا الرب يسوع المكملة لمسيرة التوبة هي مسيرة في نور الرب. الإنسان التائب يجذب النفوس البعيدة للحياة مع الله “وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله…” (إش 2: 3). في بداية مسيرة الصوم لربما الله يسألني: كم إلهاً تعبدين؟ هل بالحقيقة تؤمنين بإله واحد؟… الله أم المال؟ الله أم الجسد؟ الله أم اللبس؟ الله أم المظاهر؟ الله أم الذات. لذا من الضروري ان يكون لدينا وضوح الرؤيا “اطلبي ملكوت الله وبره (فقط) “.

هذه تعليمات أساسية لكيما نبدأ هذا الزمن المبارك في رحلة الصوم- إننا نطلب ملكوت الله وبره… والباقي يزاد لكم، وان نسير بلا هم. فالله هو حياتنا ونور طريقنا وقوتنا وعوننا في الشدائد.. إنها خواطر ثابتة وقوية نحو الحياة الأبدية التي نعيشها الآن بلا هم وبلا اعوجاج. يقول لنا الرب: “إذا صليت فادخل مخدعك وأغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء… كذلك إذا صنعتَ صدقة أو صُمتَ، فليكن كل شيء للآب في الخفاء…” (مت 6: 4- 7). الكنيسة تعلن لنا أن المخدع هو مركز انطلاق رحلة الصوم، وإذا لم يبدأ بالمخدع، فإن رحلة صومنا تكون قد انحرفت عن طريقها السليم. وكون الكنيسة تبدأ الصوم بتوجيهنا إلى المخدع، هذا يعنى أنَّ الصوم ليس متعلقا ً فقط بالجسد، وإنما بالروح والملكوت. وحيث أن الرحلة هي إلى داخل النفس، فلا بد من أن تتم في الخفاء. إن العلاقة السرية بين النفس البشرية والمسيح هي علاقة خفية تبدأ في المخدع، لذلك يجب أن يلازم الصوم قلة الكلام، وقلة الزيارات- والانعكاف على القراءات الروحية وحضور القداس اليومي.

أخواتي المباركات: إن أبانا السماوي يدعو كلاًّ منا إلى شركة مقدسة معه في الخفاء نبدأ بها صومنا وصلواتنا وصدقتنا فلنحذر من إهمالها.

إن إنجيل متى يدعونا الى تسليم حياتنا للآب (مت 6: 24- 34). “لا تهتموا لحياتكم… لا للأكل، ولا للباس، ولا للجسد… لا تهتموا للغد”. والسبب في عدم الاهتمام هو أن “أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت 6: 32). إنه دعوة للحياة المطمئنة في رعاية الآب، وتنفيذ الآية. لا تهتموا بالغد جسديًا ونفسيًا وروحيًا.

اخواتي العزيزات… لنتأمل في كلام الرب يسوع ونعمل به، كي نشهد له بحياتنا ونبتعد عن كل ما يبعدنا عن الرب وعن حفظ وصاياه، كما أؤكّد وأُذكّر ايضاَ مرة اخرى على ضرورة الحفاظ على القانون وعدم التهاون في تطبيقه لكيما يحفظنا ويصون حياتنا من كل ما لا يليق ودعوتنا الرهبانية. وهنا أؤكّد أيضاً على عدم البقاء خارج الدير في ساعات متاخرة كما هي الحال في بعض الرسالات او السهر على شاشات التلفزيون او مع “رفيق دربنا الجديد “التلفون” والحديث مع الاهل والأصدقاء وفتح الكاميرا ونسيان الذات. لا تسمحي لنفسك لبدء فرصة ثانية مع من تقضين ساعات متأخرة في الليل، هذا ليس فقط مخالفاً للقانون وانما مخالف لنذورك الرهبانية والذي سيجعلك في حالة توتر دائم واهمال نفسك من الناحية الروحية، وتفتحين باباً لعدوّ النفس ان يدخل حياتك، ويجعلك ِتكرهين  كل ما هو لله في حياتك الروحية، من نظام وقانون وصلاة والتي من خلالها تصونين نفسك وجسدك من الخطيئة. الصوم هو زمن يُذكرك فيه الله مرة أخرى بالتوبة عن الخطيئة وما تجلبها في النفس من فتور وقلة المحبة للصلاة، ولقانون رهبانيتك، والفتور في محبة الله والقريب. فلنجتهد ان تكون افعالنا كلها وتقدمة حياتنا مرضية لدى الرب، لنكون أهلاًً للوقوف امامه بوجوه مشرقة وبأيدي مملوءة بأعمال صالحة بعونه تعالى .

أتمنى للجميع زمناً مباركاً ودمتنَّ تحت حماية امنا العذراء مريم

الأخت مريم يلدة شابو

                                                                          الرئيسة العامة للرهبانية