full screen background image

“الصلاة الربيّة، أبانا الذي في السماوات”

1046

الأخت فرنسواز خلف

هذه الصلاة هي أمّ الصلوات المسيحية، علمنا إياها يسوع كلمة.. كلمة.. بطلب من تلاميذه. كيف كان سيكون حالنا يا ترى لو لم يَطلبها منه تلاميذه؟ ولو لم يُعلمنا إياها المعلّم؟

والجواب: إننا ما تمكنا نحن الذين نعيش اليوم بروحها أن نتغذى بغذائها، ونغتني بغناها، لا نستطيع أن نتصور المسيحية لا بل البشرية جمعاء بدونها.

       إن أوفى شرح لها وأبلغه وأصدقه، هو ما يأتي على لسان مَن يتلوها ويرددها كل يوم، مارا ً من خلال هذه الصلاة بكل المواقف الإنسانية، وأشرف بها على كل ساعات النهار والليل، وعاش بها كل أحداث الزمان، بخبرة الحياة كلها، بفرحها وحزنها، في رغدها وشقائها، في ضعفها وقوتها، في آمالها وخيباتها، فإذن هي له واحةً، وموردًا للعطش.

       شرحٌ يَهمس به إلى الروح، بينما يتلوها رازحًا تحت صليبه، أو غائصًا في مناجاة ربهِ، أو منتشيًا بنشوةٍ مقدسة، ناحيًا شتى مناحي الصلاة سائلاً، مسبحًا، مستغفرًا، عابدًا، راجيًا، شاكرًا، مُحبًا.

       انها صلاة زمان ومكان، وكل جنس وجيل، وكل عقل وقلب، وكل مقام وموقف. انها صلاة الإنسان التي علَّمه إياها الله.

في بستان الزيتون، حيث أقام يسوع عشيَّة موته، ساعة صلاته الكبرى، امتزجت كلماتها بالعرق (الذي) يتصبب من جسمه، وبالدم (الذي) تنتفض به عروقه، مُرددًا الكلمة الجوهرية لكل صلاة، “فلتكن مشيئتك لا مشيئتي” (لوقا 42:22).

كم من مواعظ بليغة سمعها منه تلاميذه؟ وكم كلمهم بكلامٍ رائعٍ عن الصلاة؟ وكم من مرة رأوه يُصلّي منفردًا ليلاً على جبلٍ أو في مكان مقفر؟ ثم يعود ووجهه يسطع نورًا.

وأخذ تلاميذه يشعرون ان صلاته ليست كالصلاة التي يَتلونها كل يوم، والتي يعلمهم إياها الكتبة والفريسيون. لقد أمّسوها صلاة جديدة بروح جديدة.

والتفوا يومًا حوله، وعلى الشفاه طلب، وفي العيون رغبة وقد رأوه خارجًا من مثل هذه الصلاة التي كان يصليها في كل مرة، فقال أحدهم “علمنا يارب ان نصلي” وأردف آخر “كما علَّم يوحنا تلاميذ” لا ندري ما علّم يوحنا تلاميذه من صلاة !! لقد كانت صلاته ولا شك كرسالته، دعوة الى التوبة، يهيء بها ويمهد للملكوت. فكانت كشخصه، بين العهد القديم (فرقٌ بين صلاة العهد القديم التي كانت) تملأ النفس خوفًا ورهبة، وبين صلاة العهد الجديد التي تملأ النفس عاطفةً بنوية.

ذلك لأن صلاة العهد الجديد هي صلاة الأبناء، وما كلمة “أبانا” التي تبدأ بها الصلاة باسم الجماعة، وبروح الجماعة، إلا صرخة الأبناء وهم يهرعون الى أبيهم بكل فقرهم وعجزهم وقد قرّبت البعيد، ومزّقت الحُجُب وأزالت الحواجز. مُلقبة بالأبناء.. التوّابين.. المرتمين بين ذراعي أبيهم.

ان لله اسماء كثيرة نناديه بها، كلها كريمة، كلها حبيبة، كلها اسمائه تعالى جلَّت جلالته. ولا فرق بين اسم واسم إلا في نظرنا الضعيف الكليل. لأن كل اسم له، يشمل كل اسمائه. كما ان كل صفة له، تشمل كل صفاته. إذ لا تجزئة في الله ولا تحديد. واننا عندما نناديه تارةً بهذا الاسم وتارةً بذاك الاسم، على مقتضى الحاجة. فنذكر القدير الجبار عندما نستغيث، ونذكر الغفور الرحيم عندما نستغفر، ونذكر الكريم الجواد عندما نطلب “أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” (متى 10:6)

       انه دعاء لله، لأننا نبدأ به صلاتنا، وتتهافت عباراته على شفاهنا حالما ننادي “أبانا”، فكأن اسمه تعالى، وقد ذكرناه على هذه الصورة الجميلة يُحدِث فينا نشوة مقدسة، لا نعود معها نفكّر إلا به، ولا نعود نرى سواه، ولا نعود نطلب إلا له. فننسى لأول وهلة أنفسنا، وننسى ما نحن فيه من فاقة، لنقف منه موقفًا عجيبًا ننقلب فيه مِن طالبين منه، الى داعين له. نرفع إليه عبارات التقديس والتعظيم الى كل ما هو خير، وما يُشكر به عن عطاياه، مع إننا لم نرفع بعد إليه من طلب، ولم نوجّه بعد إليه من سؤال. إنما هي العاطفة البنوية، قد غمرتنا ومَلَكت علينا (على) جوارحنا، فإذا بنا ندعو له ونقدّسه قبل كل طلب، ودون ما نعمة نلناها بعد طلب، سوى ما نشعر به نحوه من حب.

       انها الصلاة المجردة، التي يجب أن تبدأ بها كل صلاة. انه المديح للمديح، والتقديس للتقديس، والله لله، قبل كل ما سواه. فما أحقّنا بأن نقصد منه أولاً وجهه الكريم حتى في أشد مواقف فقرنا، انه لأهلٌ لأن يُقصد لذاته ويُراد لذاته. ويُحَب لذاته، كأنه ملهاةً للشأن، ومدعاةً للحديث، ووسيلة للكسب. فلنسعى الى انشاء ملكوتهُ، وتوطيد ملكهِ في العالم، وفي قلب كلٍ منّا، حتى يأتي ملكوته بقوة، فيبلغ حدوده وتمامه الى قامة ملء المسيح، الى كمال جسمه السري.

       لتكن مشيئتك، هذا الطلب هو جوهر كل طلب، وقوام كل صلاة. فهي مشيئة الله .. ملجأ الانسان من كل شر، وسبيله الى كل خير. لأنها سبب خلاص.. وأداة رحمة.. وعنوان محبة. ولذا فهي الرجاء لكل يائس، والصبر لكل مُبتلى، والعزاء لكل مُصاب. وبها نُقبِل على الحياة راضين بما تأتيه، ونسلك سبيلها مطمئنين الى غايتها، ونواجه ايامها واحداثها مؤمنين بمعناها، واثقين على انها دائمًا منّة من الله ونعمة. مرَددين مع المسيح تلك الكلمة التي تبعث في القلوب الاطمئنان والسلام: “لا تسقط شعرةً واحدةً من رؤوسكم بدون إرادة أبيكم” (لوقا 18:21).

 فمن العبث أن نتجاهل هذه الإرادة، أو نراوغ معها، أو نتمرد عليها.