الأخت مارينا
تضع الكنيسة أهتمامها بالبيئة في قلب إيمانها، وشعورها هذا ينبع من نظرتها الإيمانية إلى العالم. فهذه القضية ليست قضية سياسية أو أقتصادية أو تقنية وحسب، بل أنها أساساً إيمان بأن الله هو خالق كل شيء، هو أبو الأسرة البشرية والحيوانات والنباتات والصخور والمعادن وكل الخليقة. كل شيء خرج من يده، وعلى الإنسان أن يقيم علاقة محبة، ورحمة بالأشياء. فنظرة الكنيسة إلى البيئة ليست أفقية فحسب، أي لا تنحصر في شعور الأنتماء المشترك في هذا الكوكب، بل تنبع أساساً من نظرة عمودية، من أبوة الله الكونية. فالكون كله من عمل الله الخالق.
الكنيسة تعي المخاطر التي تحيق بالبيئة وينبغي إيقاف كل ما يهددها، لأن حياتنا مرتبطة بها، فهي تأوينا وتغذينا. لكن الكنيسة تختلف عن المنظمات الساعية إلى الحفاظ على البيئة كالسلام الأخضر Green Peace وحركة البيئة العميقة Deep Ecology. أن الكنيسة تبحث عن جذور المشكلة وليس المشكلة بحد ذاتها. ممكن أن يوقف الإنسان إطلاق الغازات التي تثقب طبقة الأوزون، سيوقف المفاعيل النووية التي تفرز نفايات إشعاعية، ألا أننا لا نستطيع أن نضمن سلوكيات مسؤولة لا تطرح على العالم في المستقبل إشكاليات جديدة. فالإنسان قادر على الأختراع، ولكن السؤال هو ماذا نخترع، ولم؟ في السابق كانت الأختراعات تسعى إلى تلبية الحاجات الإنسانية وتخفف من وطأة ألم المعيشة، أما اليوم هناك أختراعات كثيرة جعلت الإنسان يستعبدها ويستنزف طاقاته. يوجد فرق شاسع بين أختراع جهاز يسهل الأتصال، وأختراع أتصال يجبر على شراء الجهاز كجهاز النقّال. وفي خضم هذا الصراع من أجل الكسب ظهر تياران:
الأول هو تيار الأشخاص العمليين يسعون إلى أستغلال الطبيعة، ويتم ذلك غالباً تحت ستار “سياسة التنمية” والسلب والنهب يستمران. أما التيار الثاني هو تيار يربط مصير الإنسان بمصير الطبيعة، أي يرفض التقنيات المعاصرة وينادي بالرجوع إلى الحياة البرية، الحياة الطبيعية. أما الكنيسة فلها نظرة خاصة بها تختلف عن هذين التيارين وهي: أن على الإنسان أن يعتني بالطبيعة لا أن يهيمن عليها. فالرب وكل الإنسان مهمة التسلط على الأرض (تك 1: 28)، وأستثمار إمكانياتها بعرق جبينه. إنه أمر إلهي. وما يأمر به ينبغي تنفيذه. فالإنسان عامل على هذه الأرض، عامل لدى سيد هو الله خالق السماوات والأرض. وهذا العامل هو وكيل وليس عبداً. فقد سلطه الله على الأرض ومنحه القدرة لكي يتم واجبه والمحافظة علية. فالله شريك الإنسان في هذه المهمة، وحين أمر بأن يحرث الإنسان الأرض، قصد بذلك تضافر الجهود: يد من الله، ويد من الإنسان. ولكن هل يكون الله شريك الإنسان متى ما الإنسان يسيء أستعمال الأرض؟ بالتأكيد كلا، فالإنسان يقطع شراكته مع الله، متى ما يسيء الإنسان أستعمال الطبيعة وهنا تحدث الخطيئة، فالخطيئة هي أنقطاع عن الله. والإساءة إلى الطبيعة فعل يود أنقطاعاً، انقطاعاً عن من خلقها ويرعاها. ومن هنا تدرك الكنيسة دورها، وهي لا تيأس من الزحف التلوثي بل تستمر في مسيرتها بهذا العالم، لقد أرادها الله كالصوت المنبه لكل الضمائر. فالتلوث البيئي هو صورة عن تلوث عقول بشر أغوتهم الأنانية والكبرياء وحب السلطة. إنه تلوث قلوب غابت عنها المحبة والشفقة والرحمة والأنتباه إلى ما هو ضعيف ومسكين. فالكنيسة صوت صارخ في البرية، يدعو كل إنسان إلى التوبة، وإلى تغيير سلوكه تجاه كل ما تمنحه إياه الأرض كي يعيش، فلا يهدر الماء، ولا يبذر الطعام، ولا يبالغ في أستعمال الأشياء. بأختصار يكمن جذور المشكلة البيئية كم تعتقد الكنيسة في أستسلام البشر للخطيئة، وتخليهم عن طريق الصلاح والفضيلة[1]. وكما صرحَّ البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته السنة المئة: إنسان اليوم يسعى الى استهلاك ثروات الأرض بشكل فوضوي، مع إتلاف غبي للبيئة الطبيعية، بسبب ما تطغى عليهِ رغبة في التطور والتملك والتمتع بعيداً عن التقيّد بالشروط الأدبية لصيانة “البيئة البشرية” صيانة صحيحة. في الإنسان قدرة علىتحويل العالم لا بل خلقه نوعاً ما بعملهِ لكن هذا لا يتم الا اذا أنطلق من الهبة الأولى التي جاد بها الله عليه. فالله جاد بالأرض على الإنسان ليستخدمها مع مراعاة النية الأصلية التي لأجلها أعطيت له رزقاً حسناً؛ ولكن أيضاً قد وهب الله الإنسان لذاته، فعليه بالتالي ان يحترم ما جهّزه به بنية طبيعية وأدبية. فلا يجوز للإنسان إذن أن يتصرف بها كما يهوى قلبه، ويسخّرها لأرادته والا أصبح مغتصباً محل الله تعالى. فينتهي به الأمر الى تفجير ثورة الطبيعة، وقد أمست خاضعة لتحكمّه لا لحكمهِ[2].
لذا الكنيسة لم تبقى مكتوفة الأيدي بل رفعت صوتها منددة بالضرر الذي يلحق كوكبنا والمحاولة على العمل المشترك من أجل خلاصه. فالأرض هو البيت الأول الذي وهب لنا. واليوم هي مهددة من قبل أنحطاط بيئي واسع النطاق، من خلال الأستغلال الزائد للموارد الأساسية أنطلاقاً من موارد الطاقة بمختلف أشكال التلوث. وأن أول المصابين من هذا الأنحطاط هو الأشخاص الأكثر ضعفاً والأقل قدرة على حماية أنفسهم من هذا الأنحطاط. ويجب التأكيد على العمل الجماعي في إنقاذ الكوكب لأنه يخص الجميع، يتحملها كل من العلماء والمنظمات الدولية، القادة الحكوميين والسياسيون… وكل كائن بشري. “يضطلع المسؤولون عن المؤسسة أمام المجتمع بالمسؤولية الاقتصادية والبيئية عن أعمالهم. وعليهم أن يعتدوا بخيبر الأشخاص وليس فقط بزيادة الأرباح. ولكن هذه ضرورية. فهي تمكن من الحصول على الاستثمارات التي تؤمن مستقبل المؤسسات. وهي تضمن العمل”[3]. ومن الواجب التشديد على ضرورة وعي الإنسانية التي تواجه كوارث بيئية ومخاطر كبيرة تهدد مستقبل الإنسانية جمعاء. وحماية الخليقة تتطلب التعاون العالمي والتعاون مع كل الأديان، وتوعية الضمائر على المشاكل البيئية التي يعاني منها كوكبنا، وحث صانعي القرارات على اتخاذ خطوات تضمن احترام البيئة. فالمسؤولون عن الديانات والمناطق والإيديولوجيات المختلفة في العالم مدعوون الى التدرّب
على التفكير والعمل ضمن روابط شاملة، وإلا من الصعب الاستمرارية في العيش في هذا العالم الذي يحتوي أخلاقيات مختلفة موحدّة، بل بعض القواعد والقيم والمُثل والأهداف التي توحد البشر وتلزمهم.
وهكذا
نفهم إن الإنسان جزء من الخليقة، وإن سلطان الخليقة يتمثل في عمل من شقين:
“يعملها ويحفظها”. وعلى هذا فكل عمل يجب الا يشمل الناحية الإنتاجية
فحسب، بل والناحية الوقائية أيضاً. ويجب أن تصوغ النظم الاقتصادية بحيث يُراعى
نظام بيئي صحيح في كل وقت وكل عمل بشري مسؤول تم بواسطة وكلاء الله الحافظين لكل
شيء يجب ان يشمل عنصر التعاون مع البيئة[4].
[1] المسيحية والتلوث البيئي، ص 13 ـ 17 و 50 ـ 51.
[2] . البابا يوحنا بولس الثاني، السنة المئة، رسالة عامة، منشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، لبنان، 1991، عدد 37.
[3] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، البند 2432.
[4] المسيحية والاقتصاد، ص 25.