full screen background image

عيد الميلاد وراس السنة – لمحة تاريخية

790

عيد الميلاد

الأخت فيليب قرما

الجزء الثاني من الموضوع

إنّ كلمة “عيد الميلاد” تعني التعاقب السنوي للولادة. كانت شائعة الاستعمال في القرن الرابع. لكنّ البلاط الملكي وسّع معنى هذه الكلمة ليطلقها على أيام مجد الإمبراطور واعتلائه العرش، وكأيام تأليه له. في العصور الأولى، أطلق المسيحيون كلمة “عيد الميلاد” على يوم الميلاد الحقيقي للمسيحي: العماد (الولادة الروحية).

عيد الميلاد، هو الإحتفال بالتجسد الإلهي، الذي فيه أشرق لنا الخلاص من بيت لحم، تلك القرية المتواضعة، فعمَّ الفرح في العالم كله. تململت البشرية طويلاً في انتظارهذا الحدث وهذا اليوم العظيم. رأت في طفل المغارة شمساً جديدة أشرقت على البشرية كلها، وخلاصاً شاملاً بغمرها. الإله تنازل عن ألوهيته ونزل من علياء سمائه إلى أرضنا، ونصب خيمته بيننا، وصار واحداً منا شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. بميلاده تقاربت شعوب بعضها إلى بعض وسارت معاً في دروب بيت لحم، تنظر بعيونها الضعيفة طفلاً إلهياً مقمطاً مضجعاً في مذود. وعت البشرية في وجه ذلك الطفل الإلهي، أن الله محبة.

إنّ حب الله لنا سابق لحبنا (1يوحنا: 4: 16 – 19). وهذا الحب الالهي هو الذي دفع الله الآب إلى أن يرسل ابنه الوحيد ليتجسّد، ليولد من امرأة ويصبح واحداً منّا. “والكلمة صار جسداً وحلّ فينا”. إنّ يسوع المسيح هو ابن الإنسان: إنه ابن آدم أبي الناس أجمعين. غير أنه صار من لحمنا ودمنا لنصير، نحن بدورنا، من لحمه ودمه… لقد انتسب إلينا بشرياً لكي ننتسب إليه … إلهيّاً. يقول القديس إيريناوس: “إبن الله صار إبن الإنسان، حتى يصير الانسان ابن الله”. لقد نزل الرب من السماء ليفتدي الأرض وليتّحد الانسان بالله إلى الأبد.

       بالتجسد عادت الطبيعة البشرية إلى شركتها المفقودة مع الله، بل ودخلت في اتّحاد أبدي مع الحياة الالهية. فميلاد المسيح يشهد شهادة أنّه أحبّ الله الإنسانية، فأخذ منها جسداً به اتّحد إلى الأبد.    

       إنه عهد محبة دائمة بين الله والإنسان، عهد مصالحة عُظمى ووحدة مطلقة بين اللاهوت والناسوت. إنه عهد حب أعلنه الله لكل انسان، ودعوة للحب والاتحاد به. بداية الخلاص انطلقت علناً، من المغارة. من ذلك الطفل النائم في المذود.

       في المذود اجتمع المجد الالهي والتواضع اللامتناهي. إنّه “ظهور الرب الاله بالجسد”. الميلاد مناسبة لتجديد وإعلان الايمان بسرّ التجسد ومعانيه. ومن هنا نفهم أنّ الميلاد والدنح كانا حتّى القرن الرابع 354 يشكّلان عيداً واحداً: ذلك أنّ الموضوع واحد: “تجسّد الكلمة”. هذا العيد الواحد كان يُعيَّد له في 6 كانون الثاني وسمّوه عيد الظهور الالهي، أي ميلاد الرب وعماده في الأردن. ثمّ قسّمت الكنيسة الغربية العيد إلى عيدين، فاحتفلت بعيد الميلاد في 25 كانون الأول تنصيراً لعيد “ميلاد الشمس التي لا تُغلَب”. فكان المسيح شمس العدل ونور العالم، ثمّ انتقل العيد إلى الشرق فيما بعد.   

       جرى هذا الميلاد في عهد الملك هيرودس الكبير، بينما كانت بلاد فلسطين خاضعة لاستعمار الامبراطوريّة الرومانيّة. وقد اقتضى أمر التعداد العام الذي أُجري في جميع أنحاء الامبراطورية أن تترك العائلة الصغيرة بيتها الفقير في الناصرة وتتوجّه نحو الجنوب، إلى بيت لحم القريبة من اورشليم، ليتمّ تسجيلها هناك، لأنّ يوسف ومريم كانا ينتميان إلى قبيلة داود الملك التي كانت قد اتّخذت بلدة بيت لحم منذ البدء مقرّاً لها… وهناك ولد يسوع من العذراء مريم التي اختارها الله أمّاً لابنه في الزمان. من خلال هذا الابن أن يعيد البشرية إلى أصالتها ويوجّهها إلى أهدافها الحقيقية: أن يجعل الانسان من جديد ابناً لله وشريكاً في حياته ووريثاً لملكوته. أجل لقد أراد هذا الابن أن يصير واحداً منّا، إنساناً مثلنا، لكي يصبح حلقة وصل بين الله أبيه وبيننا نحن البشر المساكين. فهو الاله الحق صار إنساناً كاملاً دون أن يفقد شيئاً من لاهوته، بل حجب هذا اللاهوت تحت مظاهر انسانية بسيطة وضعيفة، وكأني به قد تخلّى عن امتيازاته الالهية. لقد اراد أن يجسّد في ذاته وجه الله غير المنظور الذي هو: الله – محبة! فتجلّت هذه المحبة في شخص يسوع الناصري الذي هو صورة جوهر الله وشعاع مجده.                   

أمّا رأس السنة، اليوم الثامن بعد الميلاد، فهو ذكرى ختانة الرب يسوع بحسب الشريعة، فقد أصبح بالإضافة إلى ذلك، منذ سنة 1968، عيد السلام، بناءً على تعميم قداسة البابا بولس السادس.                        

       مغارة الميلاد

       وضع مغارة في الكنيسة اقتباس آخر من الكنيسة اللاتينية. تُذكِّر المغارة بمكان ميلاد الرب يسوع وفقره وتحمّلّه الحرمان والآلام من أجلنا منذ ولادته. وإنها لعادة حسنة آخذة في الانتشار حتى في المنازل والحوانيت. والفضل الأكبر في ذلك يعود إلى القديس فرنسيس الأسيزي الذي استنبط المغارة لكي يعلّم رهبانه فقر المسيح وتجرّده واتضاعه. ويا ليت المغارة تعود إلى أصالتها، فلا يحجب بابا نويل- الخرافة، الطفل يسوع وحبه العظيم لنا، ولا تُنسي الشجرة المثقلة بالزينة والهدايا، بساطة المغارة وفقرها.

       ففي كل عيد ميلاد وعندما ننصب المغارة، تتوجّه أنظارنا إلى مغارة بيت لحم المتواضعة التي فيها رأى الانسان الله لأوّل مرة في التاريخ. ومنذ ألفي سنة أصبحت تلك المغارة مدرستنا جميعاً، وطفل المذود معلمنا الأوحد الجديد، الدائم. فبولادته عرياناً، فقيراً، متواضعاً، ومختفياً، علّمنا أن نتعرّى من ذواتنا ومن إنساننا القديم، وأن لا نسعى إلى غنى هذا العالم، بل أن نعرف أنّ الحاجة إلى واحد فقط، وأن نكون مثله متواضعي القلب غير متعالين على أحد وأن نعمل في الخفاء جنوداً مجهولين لا يحبّون الظهور مستعدّين لزرع بذور السلام والمحبة والفرح والرجاء في أرض البشر.

       وما قالته الأم مادلين مؤسسة أخوات يسوع الصغيرات قبل عشرات الأعوام، أقوله اليوم لجميعنا: “لنصبح بحق في كل أطراف العالم، على غرار مغارة بيت لحم، علامة لحنان الله، وشعاع نور ورجاء وسط عالم كلّه ظلم وعنف. لتكن أديرتنا وبيوتنا واحات مليئة بالوداعة والسلام، بالفرح والحب”.

       هذه هي رسالتنا في الميلاد أن نكون نجماً هادياً كلّ إنسان إلى حيث أنت يا رب، وأن نحمل البشرى إلى كل إنسان “إن الله محبة”.

نسب يسوع والنساء الأجنبيات:

هذه الصفحة من الانجيل تُظهر أن المسيح ابن الله باللاهوت وابن البشر بالناسوت، ينتمي إلى العائلة البشرية انتماءً كاملاً.

نرى متى الإنجيلي، خلافاً للعادة المتّبعة عند اليهود، يركّز على أربع نساء أجنبيّات في نسب يسوع، وبعضهنّ خاطئات، أرادهنّ الله أمّهات في شعبه المختار، وهنّ:

  • تامار الكنعانية التي اعترف حموها يهوذا “أنها أبرّ منه” (تكوين 38: 26).
  • راحاب البغي من أريحا، التي خانت مدينتها بعد استقبالها للجاسوسين اليهوديين (ايشوع 2: 1 – 22).
  • وراعوت الموآبية (راعوت 4: 18-22)، وهي مثال التقوى، والتي في أحلك الظروف، وبفضل أمانتها لشعب ليس بشعبها، استحقّت أن تكون جدّة يسّى الذي منه وُلِد داود الملك.
  • وبتشابع أرملة أوريّا الحثّيّة التي أمر داود الملك بقتل زوجها ليتّخذها امرأة له (2 صموئيل 11)، والتي منها سيولد سليمان الملك.
  • أما المرأة الخامسة فهي تلك الزنبقة الناصعة البياض، مريم التي منها ولد يسوع.

    هذا هو نسب المسيح. كمال وطهر من جهة، دنس وخيانة وجرائم من جهة أخرى. لا لم يكن المسيح محاطاً فقط بيوسف ومريم. إنما هو محاط أيضاً بيهوذا وبوعز وداود، بتامار وراعوت وبتشابع. إنه إنسان بكل معنى الكلمة. “والكلمة صار جسداً، فنسب يسوع، كلمة الله المتجسّد، غير محصور في الشعب اليهودي، ورسالته غير مقتصرة عليه، بل منذ القدم وهي تتعدّاه وتعبر به إلى بقيّة الشعوب، إلى الأمم كلها.

شهادة

كان صديقي سائراً ليلة الميلاد، في أحد شوارع بيروت. فالتقى امرأة فقيرة تحتضن طفلاً وتبكي. فتوقّف وسألها ما بها. فأجابته: “طفلي مريض جداً. دقَّقتُ أبواب العيادات، فلم يستقبلني أحد، لانهماك الجميع باستقبال العيد. فاقتادها صديقي إلى عيادة قريبة. قرع الباب. فتحت له ممرضة. وعندما وقع بصرها على الأم وابنها وبَّختها بشدة على عودتها ثانية وإصرارها على مقابلة الطبيب في مثل هذا اليوم.

فتوسّط صديقي وأدخل الأم وابنها قاعة الإنتظار. وفيما هو يحيل طرفه رأى في إحدى الزوايا “مغارة الميلاد” فراح يتأمّلها. وإذا بالطبيب يُطِلُّ من باب داخلي ويعلن بشدةٍ للحاضرين، عن رفضه اليوم كل معاينة. فأشار الصديق بإصبعه إلى المغارة وسأله: ما هذه؟ فأجابه الطبيب بهدوء “إنها مغارة الميلاد” التي ستستضيف في منتصف الليل، الطفل الإلهي وأمه مريم. فنصحه الصديق بصوت خافت قائلاً: “إن كنت لا تنوي الآن استقبال هذه الأم فأحرى بك أن تنزع المغارة من عيادتك”. بُهِتَ الطبيب وفكّرَ مليّاً ودمعت عيناه. فدعا للوقت الأم وابنها إلى مكتبه، برفق وعطف، وفحص الطفل فحصاً مدققاً وطمأَنَ الأم وزوّدَها بالأدوية اللازمة … وشكر الوسيط على لفته إلى معنى المغارة وجوهر العيد. ثمَّ صرف الجميع باحترام فائق، راجياً الأم أن تعود إليه ساعة تشاء.

محطات تأملية

       من البديهي أنّ عيد الميلاد يجب ألاّ يكون لنا مجرّد ذكرى نحتفل بها كل سنة، أو حدث جرى في الماضي البعيد يطيب لنا أن نتذكّره ولو مرة في السنة، وسط مظاهر البهجة والفولكلور، هذه المظاهر التي غالباً ما تطغى على معنى العيد العميق، وتحجب عن الكثيرين هذه الحقيقة الكبرى التي نريد أن نحياها كل يوم من جديد وبمزيد من العمق والاستمرارية.

  • كيف نستطيع في عالم اليوم تحضير الناس لقبول الرب في حياتهم؟
  • الرب يسوع تجسّد في زماننا الحاضر، واستعمل وسيلة بسيطة متواضعة، هل ندرك أنّ التواضع والبساطة أصبحا من الحاجات الملحّة في عصرنا؟
  • مريم ويوسف اهتمّا بيسوع بكل مسؤولية ووعي وانتباه، وحافظا عليه وساهما في رسالته الخلاصية. هل نحن نتحمّل مسؤولية يسوع الذي نؤمن به، ونسعى كي نحمله للآخرين في تصرّفاتنا وحديثنا وعلاقاتنا ونشاطاتنا؟
  • كانت النجمة دليلاً أميناً إلى المسيح، كيف نكون في هذا العالم المظلم نجمة أمينة تدلّ إلى الخير والمحبة والخلاص؟
  • ما معنى الميلاد بالنسبة إلينا؟ أي رسالة يحمل لنا ولأولادنا، هل سيشرق علينا من جديد نجم المغارة، فتعود بهجة العيد إلى مجتمعنا وعيالنا؟