full screen background image

عيد الميلاد – لمحة تاريخية

664

عيد الميلاد –  لمحة تاريخية

الأخت فيليب قرما

        أرادَ الله أن يُشرِكَ الإنسان منذ البدء في حياتهِ الإلهية، فأنعمَ عليهِ بالخلقِ، وحباهُ بالعقل والإرادةِ ليُمكّنَ الإنسان من أن يُقدِّم له جواباً مُحباً للدعوة التي قدّمها له. غاية خلقِ الإنسان إذن هي أن يكون شريكاً في الطبيعة الإلهية فينالَ بالإرادة (قرار الإنسان الحُر)، ما لله في الطبيعة، وهذه الهبة كانت نعمةً من الله لم يكن مُجبراً عليها، بل جاءت بدافع محبتهِ: وقال الله: “لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا  …. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله … ورأى الله جميع ما صنعه فاذا هو حسن جداً. وكان مساء وكان صباح: يوم سادس” (تك 1: 26- 31).

هذا الخلق يعني أن على الإنسان أن يعيش الصورة التي خُلقَ عليها، وأن يُحققها في حياتهِ، عارفاً أنه إنسانٌ محدودٌ ولن ينجحَ في ذلك من دونِ نعمة الله، فلن يكونَ إنساناً حقاً من دون الله. نعمةُ الله هي الينبوع الذي منه يُواصل النهر تدفقهُ، ولا يُمكن للإنسان أن يواصِل الحياة من دون الله، فسيجفُّ إنسانياً وييبس. فالإنسان ينتعِش بمقدار قوّة علاقته بالله، وسينال المعرفة إن ترسخّ في الله.

        لكنَّ الإنسان صدّق المُجرب حين قال له: أنتم لستُم بحاجة إلى الله، يُمكنكم أن تكونوا آلهة، وما يمنعكم هو الله نفسهُ. لقد كذَّب المُجربُ الله، بل جعلَ منه منافساً للإنسان وعلى الإنسان إزاحتهُ عن حياتهِ. فعصى الإنسان الله وتحمل نتائج هذا العصيان. لكن الله أرادَ أن يُصلِح الصورة التي تشوهّت بالعصيان، ويُعيد إلى الصورة بهاءها الأول، وهذا لن يكون إلا إن قامَ هو بالمُبادرة لأن الإنسان غير قادرٍ على ذلك. فخطيئة الإنسان لن تحجبَ نعمة الله الذي واصلَ مرافقة الإنسان ليجذبهُ حيثما هو. غاية التجسد ليست أن يظهر الله إنساناً، بل ليأخذ الإنسان إلى حيثما يجب أن يكون: “دعوتكم لتكونوا آلهةً”. هذه هي دعوة الله للإنسان: أن يشترِكَ في حياةِ الله الخالِق، وعليه أن يثقَ بالصديق، بالشريك ويؤمن بالشركة التي معه، فجاء جوابُ مريم ليكون جواب الإنسانية التي أرادها الله: “أنا أمةُ الربِّ، فليكن لي حسبَ قولِك”. مريم، قدمت فعل إيمان حُر، لأن الدعوة لا توجه إلا لإنسان حُرٍ قادر على أن يختار ما هو خيرٌ وصالحُ، أن يختار الله.

إنّ الله وعد البشرية بمخلص بعد سقوط أبوينا الأوّلين. ونرى ظلّ هذا المخلص يرتسم على الكون منذ الصفحات الاولى من سفر التكوين… ثمّ جدّد الله وعد الخلاص للبشرية خلال أجيال طويلة، وهيّأها لمجيء المخلّص بواسطة “الأنبياء” الذين وجّهوا الأنظار إلى المسيح الآتي، وأنعشوا الرجاء في قلوب البشر، وسلّطوا الأنوار على نواح عديدة من حياة هذا المنتَظَر العظيم وأعماله. “ها إنّ العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل” (اشعيا 7/14)؟ أو قول ميخا الذي يصف ميلاده في بيت لحم (5/2)؟ أو نبوءة إرميا الذي يصف المجزرة الرهيبة التي جرت في بيت لحم بقتل الأطفال بُعيد هذا الميلاد بفترة وجيزة (31/15)؟

       أمّا الرسالة إلى العبرانيين، فتستعرض في مطلعها ملخّصاً مكثّفاً لخطة الله في إرساله المخلّص إلى العالم، وتقول: “إنّ الله، بعدما كلّم آباءنا قديماً مرات كثيرة بلسان الأنبياء كلاماً مختلف الوسائل، كلّمنا في هذه الأيام، بلسان الابن الذي جعله وارثاً لكل شيء وبه أنشأ العالمين. هو شعاع مجده وصورة جوهره، يحفظ كل شيء بقوة كلامه… (عبر 1/1-3). ويقول القديس بولس أيضاً: “فلمّا تمّ الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً لامرأة” (غلاطية 4/4)، أي حينما بلغ انتظار البشرية ذروته ونضج استعدادها، وفى الله بوعده، فأرسل المخلّص المنتظر!

       لم تترك لنا الأناجيل ولا الأدب المسيحي القديم أي إشارة واضحة إلى اليوم الذي وُلِد فيه الرب يسوع. إنّ أول مرجع تاريخي كنسي حدّد تاريخ عيد ميلاد الرب يسوع في 25 كانون أول يعود إلى سنة 336م. وقد اختارت الكنيسة هذا التاريخ (أي يوم 25 ك1) لأنّ الوثنيين كانوا يحتفلون بعيد الههم الشمس في هذا اليوم. وبما أنّ المسيح هو شمس العدل ونور العالم، عمَّدت الكنيسة العيد الوثني فأصبح عيد ميلاد الرب يسوع. إنّ علماء الليتورجيا يعلّلون الخامس والعشرين من شهر كانون الأول للإحتفال بعيد الميلاد في روما، برغبة الكنيسة، بعد “السلام القسطنطيني”، في تحويل المؤمنين من الإشتراك بالعيد الوثني الشهير الذي كان يُقام في ذلك اليوم، على شرف ميلاد “الشمس التي لا تُغلَب”، والذي كان الامبراطور أوريليانوس قيصر قد أسّسه سنة 274، إكراماً للإلهة ميترا. في هذه المناسبة كانت مدينة روما تنظّم المهرجانات والألعاب المختلفة دون التقيّد بأيّ رادع أخلاقي. (ميترا إلهة عُرِفَت في الأوساط الهندية والفارسية. وبعد أن دخلت عبادتها العالم الروماني، احتلّت المحل الرئيسي في أوساطه العسكريّة، خصوصاً في القرن الثالث بعد الميلاد).

       ولمّا كانت عبادة الشمس هذه في أوجها تشكّل خطراً كبيراً على أبناء الكنيسة، كان من المناسب أن تجد الكنيسة بديلاً له. ولم ترَ أنسب من “تنصير العيد”، وذلك انطلاقاً من فكرة المسيح “شمس العدل”، التي تكلّم عنها النبي ملاخي 4: 2، والتي كان بشكل عربة تجرّها أحصنة بيضاء، ومن فوقها شمس ساطعة.

كانت الكنيسة الشرقية تحتفل بميلاد الرب في السادس من كانون الثاني، في عيد الدنح كما هي العادة عند الأرمن والأحباش والأقباط الأرثوذكس. وكان الوثنيون يعيّدون ميلاد الشمس في الخامس والعشرين من كانون الأول، فبدَّل المسيحيون هذا العيد بعيد ميلاد المسيح، شمس العالم الحق، كما تدلّ على ذلك وثيقة تاريخية تعود إلى سنة 354، فعيّدت كنيسة روما مع أنطاكية وبيزنطية ميلاد المسيح في الخامس والعشرين من كانون الآول، وحافظت على السادس من كانون الثاني كعيد عماد المسيح، وظهور ألوهته للعالم. وهكذا نرى أنه في أقل من قرن، كان العيد قد انتشر في كل العالم المسيحي. ولا شكّ أنّ ما ساعد على ذلك هو إعلان أمومة العذراء الالهية في مجمع أفسس المسكوني سنة 431.

إنّ قبول مريم العذراء بالرسالة الملقاة عليها وضع حدّاً للعهد القديم المبني على الوصايا، وبدأ العهد الجديد المبني على المحبة.

“إني أبشركم بفرح عظيم”: “ولد لكم اليوم مخلص وهو المسيح الرب”

كانت هذه بشرى الملائكة للرعاة، البشرى بتجسد الإله الذي جاء إلى عالمنا حاملاً الخلاص والسلام والخير والمحبة إلى أهل الأرض جميعاً.

الميلاد: هو تجسّد المسيح المخلص في بيت لحم، حلم الكون والبشر أجمع، رجاء الآباء والقديسين، ورؤيا الأنبياء الملهمين.

الميلاد هو سر “الله معنا” عمانوئيل: الأقنوم الثاني من عائلة ثالوث السماء يُصبح ابناً في عائلة ثالوث الناصرة، وفي كل عائلة.

       الميلاد هو سر لقاء الله بالإنسان؛ سر تجسّد الله ليتأله الإنسان وينقل البشريّة من الموت إلى الحياة. إنه معانقة السماء للأرض وفيض محبة الله لها. هو سر “الله معنا” عمانوئيل، ارتضى أن يسكن فيما بيننا. “الكلمة صار بشراً وحلَّ بيننا”. في الميلاد انتسب ابن الله إلى عائلتنا البشريّة كي يجعلنا أبناء عائلته الالهية. يسوع وُلِد من أجلنا ليصير ميلاده حدثاً شخصيّاً في حياة كل منّا، فهو عطيّة مقدّمة لكل إنسان؛ إنه بطاقة تجديد عهد حب الله للبشرية ليشركها بميراثه وليمتّعها بحرّيّة البنين – تلك الحرّيّة التي تجعلنا جميعاً أبناء الله حقّاً.

       بالميلاد أصبحت أرضنا سماء لأنّ رب السماء حلَّ في أرضنا وفيما بيننا. أعطانا كل شيء حتى حياته نفسها ليعلّمنا معنى الحب. وبدخوله تاريخنا غيّر وجه التاريخ البشري وقدّس الزمن فأصبح ذا قيمة. فمنذ أن قال الملاك: “ولد لكم اليوم مخلّص”، صار للتاريخ كلّه منعطف جديد. وهذا المنعطف لا ينتمي إلى الماضي. إنه “اليوم” اليوم الدائم، اليوم الذي لا غروب لشمسه. وفي كل يوم يولد المسيح ويحيا ويعيش فيما بيننا ومعنا. ومنه نتعلّم السير في الطريق المؤدّي إلى الأب، إلى الملكوت، إلى قلوب إخوتنا البشر.

حول مولود بيت لحم، ولد شعب جديد يؤمن به فادياً ومخلصاً. نما هذا الشعب جداً، وملأ العالم كله، وهو يعدّ اليوم أكثر من مليار مسيحي كاثوليكي منتشرين في العالم، ويكوّنون كنيسة واحدة تجمعهم. فجر هذه الكنيسة انبثق من تلك المغارة المتواضعة.

الموضوع له صلة