دور الشباب في الكنيسة وفي المجتمع
الأخت بشرى حنا
دور الشباب في الكنيسة وفي المجتمع؟ سؤال يُطرح اليوم أكثر من أي وقت مضى، أوّلًا في الكنيسة: وتحديدا ًبعد المجمع المسكوني الثاني وإعادة اكتشاف دور العلماني في الكنيسة، وثانيًا في المجتمع: خصوصا ًبالنظر إلى ما يجري حولنا في العالم العربي من ثورات وحروب وتهجير واضطهاد في بعض الأحيان. هذا الأمر يفرض علينا أن نتعمّق في التفكير في وضعنا كشباب مسيحي في الكنيسة أولا وكمواطنين عراقيين ثانيا ً.
في الانجيل تكلم يسوع عن مثل الاب الذي طلب من ابنيه أن يذهبا ويعملا في الحقل. الابن الأول قال لا أريد ثم ندم وذهب، اما الابن الثاني فقال نعم لكنه لم يذهب. وخلُص المسيح قائلا إن من عمل إرادة أبيه هو الذي رفض في باديء الأمر ثم ندم وذهب وعمل في الحقل. هذا المثل يجعلنا نتسائل: هل الله له حقل؟ والجواب سيكون: نعم له حقل، وحقله هو العالم. والمسيحي مُرسل ليعمل في هذا الحقل. ويجب أن يعمل، لأن المسيح قال أكثر من مرة أنه لا يكتفي بالكلام الجميل المعسول بل يريد العمل. “ليس كل من يقول لــي يا رب يا رب! يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات” (متى 7: 21).
اذن، ما هي مجالات العمل في حقل الله الواسع؟ ولكي نُجيب على هذا السؤال فهنالك على الأقل أربعة مجالات:
أولا ً: مجال العمل على الذات، اي ان يعمل كل واحد على ذاته.
ثانيا ً: مجال العمل على العائلة لمن له عائلة.
ثالثا ً: مجال العمل في الرعية والكنيسة.
رابعا ً: مجال العمل في المجتمع.
وما يهمنا كشباب في الكنيسة وكمواطنين مسيحيين في العراق، ثلاثة من هذه المجالات. ومن له عائلة يعمل أيضا ً في المجال الرابع. ولكن قبل أن ندخل في تفاصيل عمل الشاب المسيحي على ذاته وفي الكنيسة وفي المجتمع، أريد أن أعطي ملاحظتين مهمتين:
الملاحظة الاولى: تخص العدد، فدور المسيحي في المجتمع يجب ألا يرتبط بعدده أو بنسبته إلى مجموع السكان. فالمسيحيون في العراق أصبحوا نسبة ً قليلة فقط من سكان الوطن، وهنا لا نُريد أن نقول (انهم أقلية) لأن كلمة أقلية تتضمّن نفسية معيّنة لا نريدُها لنا كمسيحيين (خوف، بحث عن حماية القوي، انكماش، إنزواء وهروب أمام الصعوبات). لا نقول بل نقول أن عددنا قليل. والعدد القليل لا يعني أننا أقل مواطنة من العدد الكبير. الإنسان المسيحي ليس عددا ً، فالمسيحي إنسان ومواطن. وحقوق الإنسان وواجباتهِ لا تأتي من عدده، بل من كونه شخص مواطن له ما لغيره وعليه ما على غيره. وفي المنظور الإيماني نقول من كونه مخلوقا ً على صورة الله ومثاله، وبالتالي فهو يتمتع بكرامة الله نفسها.
اما الملاحظة الثانية: فهي تخص ميزات العدد القليل. يقول الرب يسوع: “أنتم ملح الأرض، …….” وفي مكان اخر يقول: “أنتم نور العالم، ……”، ويقول ايضا ً:”أنتم الخميرة في العجين، ……”. فهو لم يقل أنتم ملح المسيحيين، بل ملح الأرض. ونسبة (كمية) الملح في الطعام ومفعوله هي نفس نسبة العدد القليل بالنسبة للعدد الكثير. أساسًا، من صفات الملح أن يكون قليلاً، وإن ازداد الملح في الطعام فالطعام لا يؤكل. وهكذا النور بالنسبة للغرفة أو القاعة، وهكذا الخميرة بالنسبة للعجين. الطعام هو الكبير والقاعة هي الكبيرة والعجينة هي الكثيرة، والملح والنور والخميرة هي القليلة، لكن فعل الملح كبير وفعل النور كبير وفعل الخميرة ايضا ًكبير. ولكن لكي يُعطي الملح فعله وكذلك الخميرة، فيجب أن يوضع داخل الطعام وليس بجانبه. والمسيحي الذي هو ملح العالم يجب ان يكون داخل العالم ولا يكون على الهامش إن أراد أن يكون أمينًا على رسالته التي أوكلها إليه السيد المسيح.
هذا هو المنطلق والأساس الإنجيلي لما سنقوله عن دورنا كمسيحيين بشكل عام وكشباب بشكل خاص، في الكنيسة وفي المجتمع.
نعود إلى موضوعنا وسؤالنا الرئيسي: هل لي دور كشاب مسيحي في الكنيسة او في المجتمع؟ والجواب حتما ً سيكون نعم. لانك عضو فعال في الكنيسة وجزء كبير من المجتمع ولك رسالة وهي أكبر دور، في الكنيسة وفي المجتمع.
وكما قلنا سابقا ً فان المجال الأول للعمل في حقل الله هو العمل على أنفسنا. ذلك أن كل واحد منا هو شخصيا ً حقل الله، ففي داخل كل واحد منا حقل مليء بكل ما هبّ ودبّ. في داخل كل واحد منا غابة تتشابك فيها الأمور والأفكار والهموم والمستقبل والدروس والعمل والواجبات ونقاط الضعف والخطايا… غابتنا الداخلية فيها شوك وحجارة وحصمة وتراب، وكل هذا بحاجة إلى ترتيب داخلي. تخيّلوا الفرق بين بستان مهجور وبستان مرتّب !! هذا الأمر متروك لكل واحد منا أن “يعشّب” بستانه الداخلي، وهنا يأتي دور المرشد أو المرافق الروحي للشاب.
اما المجال الثاني للعمل فهو الكنيسة والرعية، فأنت بحكم العماد عضو في الكنيسة وعضو في الرعية. وإن كان لكل مسيحي دور، فللشاب دورٌ متميّز. يقال الكثير عن عمر الشباب (أنتم تاج الكنيسة)، (أنتم مستقبل الكنيسة)، (أنتم كنيسة الغد)، فماذا يعني ذلك؟ الشباب طاقات متفتّحة، عطاء، مغامرات، عاطفة تسبق العقل أحيانًا. عمر الشباب يحب الصراحة ويمقت المراءاة. عمر الشباب لا يعرف عقلية الحساب. فإن أحب فهو يُحب بشكل كامل، وإن هو ابتعد فيبتعد بشكل كامل.
إيمانيًّا، عمر الشباب هو عمر الخيارات الشخصية في الإيمان وعمر الإيمان النافذ إلى الحياة. إيمان الشباب لا يقبل الإيمان التقليدي الموروث الذي يكتفي بتتميم واجبات ووصايا خارجية، بينما حياة الإنسان بعيدة كل البُعد عما يؤمن. هذا التناقض بين الإيمان والحياة هو ما ينفّر بعض الشباب من الكنيسة. إذن ما هو دور الشباب في الكنيسة؟ دورهم أن يعيشوا كل هذه الصفات في أنفسهم أولا، ومن ثم في الرعية وفي الكنيسة. قال أحد الكتاب عن دور الشباب في الكنيسة: “دعوا النار التي في داخلكم دائمة الإشتعال. لأنه إن انطفأت ناركم أنتم الشباب، متنا نحن من البرد”.
وعمليا ً، يعني أن يوظف الشباب في الكنيسة وفي الرعية الطاقات التي وضعها الله فيهم. الطاقات العامة التي ذكرناها، والطاقات الخاصة بكل فرد: الترتيل، خدمة الهيكل، القراءات، التعليم المسيحي، الموسيقى، حسابات الرعية، المحاضرات، الإهتمام بالأصغر سناً (البراعم)، المخيمات الصيفية. ومن ثم وبشكل خاص فرق الشبيبة والكشافة والترتيل. فالعمل الجماعي يُغني الرعية والكنيسة، ويدعم الشاب الذي قد يشعر بالتعب أو بالفتور إن هو عمل لوحده. وكمثال لذلك جماعة الشباب الذين يجلسون بشكل حلقة يستدفئون حول النار.
قلنا سابقا ًأن للشاب رسالة وليس دورا ً في الكنيسة وفي المجتمع. الرسالة أقوى من الدور. الفرق بين الدور والرسالة هو أن الدور ينحصر في التمثيل ويستمر ما دامت الحاجة إلى الدور مثل (المسرحية او الفيلم)، بينما الرسالة ترافق الإنسان طيلة عمره، إضافة لذلك فأن الرسالة تكون موجّهة أصلًا إلى الشخص الآخر…. لك رسالة تجاه فلان أو فلانة.
المجال الثالث للعمل هو المجتمع. للشاب رسالة يؤدّيها في المجتمع لأنه جزء من المجتمع الذي يعيش فيه. هذا ما تقوله الوثائق الكنسية وما يقوله البطاركة في رسالاتهم الرعوية. في الماضي، سادت في الكنيسة وفي المجتمعات المسيحية فكرة مفادها أن العالم شرير وأنه يدفع الإنسان للخطيئة وللابتعاد عن الله وعن الفضيلة (مغريات العالم وأباطيله). وكانت النتيجة لهذا التوجّه هو نصيحة المسيحي المؤمن بالإبتعاد عن العالم لتأمين خلاصه الأبدي. فمن كان يريد أن يعش حياة قداسة، كان عليه أن يهجر العالم ويلجأ إلى الدير ليقضي حياته في الصوم والصلاة وعمل الخير. هذا النمط من التفكير انتهى، لان حياة الكاهن اوالراهب تقود إلى القداسة، وحياة الزوج والزوجة تقود إلى القداسة، وحياة الشاب والشابة تقود إلى القداسة. الجميع مدعو إلى القداسة حيث وضعه الله وفي نمط الحياة الذي أراده الله له، شريطة أن يعيش حياته حسب مشيئة الله. ومن جهة العالم، فالعالم ليس صالحا ً ولا شريرا ً. فهنالك بشرٌ صالحون وبشرٌ أشرار. وأنت جزء من هذا العالم ومن هذا المجتمع، ولا تستطيع أن تنفصل عنه او تهرب منه، لأنك بذلك تنفصل عن الحياة الطبيعية، وتعيش على جهود الآخرين وعلى آلام الآخرين، وهو موقف لا إنساني ولا مسيحي.
والرسالة التي نتكلم عنها في المجتمع لها بُعدان: البُعد العام والبُعد الخاص.
فعلى نطاق البُعد العام فأن الرسالة تقوم على:
– الحوار مع العالم وحول مشاكله المتنوعة مثل (العنف) وعلى تسليط نور الإنجيل عليها.
– إتمام مهمات المسيحي في المجتمع بإخلاص مسترشدين بروح الإنجيل.
– يقول المجمع إن: “من يهمل مهامّه البشرية يبتعد عن الحقيقة … ومن يُهمل إلتزاماته الأرضية يهمل إلتزماته نحو القريب وبالتالي تجاه الله ويعرّض خلاصه الأبدي للخطر”.
أما البُعد الخاص، وهو البُعد الذي ينفرد فيه المسيحي المؤمن في رسالته داخل المجتمع فيقوم على:
– الاتّسام بالتفاؤل. فلا يقبل المسيحي أن تكون الظروف المحيطة به أقوى منه. وهذه تجربة كثيرا ً ما نتعرّض لها نحن مسيحيي العراق. السيد المسيح لم يكن ضعيفا ً ولم يهرب أمام الصعوبات، وهكذا علّمنا أن نكون. المسيحي إنسان قويّ. والمسيحي يعلم أنه بالرغم من جميع الصعوبات، فالعالم ما زال فيه خير، كما يعلم أن الله هو سيّد التاريخ وهو الذي يقود البشرية من خلال طرق لا نفهمها دومًا. وإن كان الله يقود البشرية، فإنه يقودها نحو الخير، لأن الله خير.
– الإلتزام بالإنسان الذي تُمتهن كرامته. والإنسان ذو الكرامة المهانة هو الغني والفقير، القوي والضعيف، المنتصر والمهزوم. وفي كل واحد منهم تُمتهن صورة الله التي خُلق عليها.وإن كان لا بد من وضع سلّم أولويات في المعاملة، فليكن ذلك لصالح الفقير والمظلوم. هذا هو خيار السيد المسيح وخيار الانجيل وخيار البابا فرنسيس وخيار المسيحي الذي يريد أن يعيش إيمانه بصدق.
الشاب المسيحي العربي بشكل عام والعراقي بنوع خاص هو جزء من عالم عربي يعاني من قضية أمن وعدل وسلام واستقرار سياسي واجتماعي، وقد ظهر ذلك بوضوح في السنوات الأخيرة. وعلى المسيحي المؤمن أن يعي ذلك ويساهم في تحقيق أماني شعبه بحسب طاقاته ومواهبه. المهم ألا يكون الإيمان حاجزا ً أو عذرا ً يعفيه من العمل. يقول أحد البطاركة: “لا يستطيع المؤمن أن ينزوي خلف الشعائر الدينية. فإن الشعائر الدينية لن تكون تعبيرًا عن الإيمان الحي إذا ما أصبحت طقوس عصور غابرة، لا صلة لها بالحياة الحاضرة وبألآمها ورغباتها وقلقها”.
اخيرا ً، القيام برسالة الشاب المسيحي في الكنيسة وفي المجتمع تفترض أخيرا ً إيمانا ً عمليا ً وقناعة شخصية راسخةً ووعيا ً كاملاً لدوره كشاب مسيحي مؤمن في الكنيسة (بيته الروحي) وفي المجتمع الذي أراده الله له. وهذا الإيمان والقناعة والوعي ينمو ويتغذّى من خلال حياة مسيحية صادقة فيها صلاة وممارسات دينية وحياة للأسرار وفيها مراس من الكتاب المقدس وفيها دراسة وتثقيف روحي مستمر وفيها تفكير وعمل ومراجعة حياة مستمرة لتوضيح الرؤية متابعة المسيرة.